لبنان: حكومة الحريري أمام سيناريو 1992

18 ابريل 2019
من اعتصام للموظفين في بيروت أمس (حسين بيضون)
+ الخط -
في العام 1992، بعد أقل من عامين من انتهاء الحرب الأهلية، أسقط الشارع اللبناني حكومة عمر كرامي، بعد أن خرج الآلاف احتجاجاً على تردي الوضع الاقتصادي، وعلى انهيار سعر الليرة اللبنانية، مع وصول الدولار الأميركي إلى نحو ثلاثة آلاف ليرة، في تضخم قياسي لسعر العملة المحلية، من دون أن تنجح الحكومة في معالجة الأمر والتدخّل سريعاً لوقف الانهيار. واليوم ثمة من يحذر من مصير مشابه لحكومة سعد الحريري، خصوصاً مع انطلاق تحركات في الشارع، بدأت الإثنين بتظاهرات للعسكريين المتقاعدين، ثم لموظفي القطاع العام والمدارس والثانويات وغيرهم أمس، مع مؤشرات إلى إمكان توسعها.

وبعد نحو 27 عاماً على سقوط حكومة كرامي، تضرب لبنان أسوأ أزمة اقتصادية ومالية، وما كان الحديث عنه محرماً قبل أشهر بات مباحاً اليوم. فقبل أسابيع عندما نشرت مجلة "إيكونوميست"، تقريراً حذرت فيه من الانهيار، انتقدت الطبقة السياسية اللبنانية يومها نشر الإشاعات، معتبرة أن الترويج لمثل هذه الأخبار والتحليلات لا يخدم سوى الضرر بلبنان، لكن اليوم بات الحديث عن مصير مشابه لليونان مألوفاً في الأروقة السياسية اللبنانية وحتى على لسان رئيس الحكومة.

وتعمل الحكومة منذ أيام على وضع اللمسات الأخيرة على الموازنة، مع سعيها لإقرارها بسرعة لتكون خطوة في اتجاه الحصول على الأموال أو القروض التي رصدها مؤتمر "سيدر"، والتي تعوّل عليها الحكومة لإعادة إطلاق عجلة الاقتصاد اللبناني كما تقول، لكنها أموال مشروطة بإصلاحات ووقف الهدر المالي وإطلاق عملية مكافحة الفساد، ولهذا أطلق على الموازنة الموعودة تسمية الموازنة "التقشفية"، التي فرضها أيضاً الواقع المالي للدولة. واعترف الحريري أمام البرلمان أمس، بـ"أننا في وقت صعب"، محاولاً في المقابل طمأنة الشارع بالقول: "صحيح أننا وعدنا بموازنة خلال شهر أو شهرين، ولكننا نحاول عدم المس بأحد".

وتقول مصادر حكومية لـ"العربي الجديد"، إن لدى الحكومة شبه قناعة بأن الوضع في البلد لم يعد يحتمل، وأن الأزمة الاقتصادية باتت تطوّق كل قطاعات البلد، إذ لا يوجد اليوم أي قطاع منتج، وهذا الواقع بات يخنق المواطن اللبناني، الذي يرزح بأغلبيته تحت الفقر، في ظل بطالة مرتفعة، وانخفاض القدرة الشرائية، وارتفاع الأسعار، وهو واقع تقول المصادر إن المواطن اللبناني لن يتمكّن من تحمّله طويلاً. وبسبب هذا الوضع، ابتعدت الحكومة في موازنتها الموعودة عن فرض مزيد من الضرائب على المواطن اللبناني، بعد أن تبيّن لها عدم إمكانية تحمله أي ضريبة إضافية، وأن الخيار الوحيد في حال فرض هذه الضرائب سيكون اللجوء إلى الشارع. وبدل ذلك، تعمل الحكومة على خطوات أخرى، منها مثلاً رفع تعرفة الكهرباء، التي يدفعها المواطن إضافة إلى دفع فاتورة المولدات الكهربائية الخاصة، مستندة بذلك إلى الخطوة الأخيرة التي قامت بها لتخفيض فاتورة المولدات عبر تركيب عدادات، ما يعني أن ما تم توفيره على جيب المواطن من المولدات سيدفعه لشركة الكهرباء.
وعلى الرغم من أن الكثير من نقاط الموازنة وما ستتضمّنه لا يزال غامضاً، إلا أن الأكيد أن الحكومة تحاول أن تختار خطواتها المتعلقة بالشارع بعناية فائقة، مع تلمّسها لإمكانية انفجار الوضع في أي لحظة، ولهذا لجأت إلى خطوة يقال إنها قد تكون أجدى، وهي تخفيض رواتب العاملين في القطاع العام، على الرغم من أن نسبة الخفض لا تزال مدار أخذ ورد. هذه الخطوة تسعى الحكومة عبرها لامتصاص أي نقمة أو غضب في الشارع، خصوصاً أن هذا القطاع يعاني من تضخّم كبير نتيجة التوظيفات العشوائية والمحسوبيات والمحاصصة السياسية، كما أن أغلب هؤلاء محسوبون على الأحزاب السياسية، التي أمّنت لهم هذه الوظائف ضمن الدولة، وبالتالي إمكانية ضبط أي تحرك لهم ممكن.

وتلعب الحكومة اقتصادياً على التناقضات السياسية والاجتماعية، لكنْ في المقابل ثمة رفض شعبي لتحمّل أزمات الوضع الحالي، فيما هناك عشرات الحلول الأخرى التي يرددها الشارع ويدركها، ومنها أولاً رواتب النواب السابقين، ورواتب الرؤساء والوزراء والنواب، والمدراء العامين المتضخمة، إضافة إلى أبواب الفساد والهدر التي تستفيد منها الطبقة السياسية، باعتراف شخصياتها، وصولاً إلى الأملاك البحرية، والأبنية المستأجرة، والنفقات الأخرى.

تدرك الحكومة اللبنانية، وفق ما تقول المصادر الحكومية لـ"العربي الجديد"، أن الشارع اللبناني يرفض أن تتعامل الطبقة السياسية معه وفق النمط المصري، أو سياسة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي أشاد به الحريري يوماً. تلك الطريقة التي يحاول السياسيون عبرها تحميل الناس المسؤولية والشراكة في واقع بالأصل يتحمّلونه وحدهم. هذه السياسة التي بدأت تطل برأسها، روّج لها في الأيام الأخيرة وزير الخارجية جبران باسيل، عندما قال: "هناك قرارات صعبة، كلنا يسأل مَن يحملها وكيف نعلنها، فلنتحمّلها جميعاً، ونعلنها معاً. على موظفي الدولة القبول بأنهم لا ‏يستطيعون الاستمرار على هذا المنوال، ومَن يحزن أنه سيخسر نسبة معينة من التقديمات التي يحصل عليها، فليفكر ‏إذا لم نقم بذلك، فلن يحصل بعدها على شيء".

وفيما لا يزال غير واضح ما إذا كانت الموازنة ستُعرض سريعاً في الحكومة لإقرارها أو تؤجل ريثما تنضج بعض النقاط، يبقى الأكيد أن البلاد ستدخل مع الموازنة الجديدة مرحلة بالغة الخطورة، وستكون الحكومة أولاً أمام امتحان جدي لإظهار مدى قدرتها على انتشال الوضع الاقتصادي، كما ستكون محط أنظار المجتمع الدولي الذي ينتظر ما سيُطبّق لبنان من تعهداته التي قدمها في مؤتمر "سيدر" ليبنى على الشيء مقتضاه، إما تقديم القروض الموعودة وإما صرف النظر. ولهذا سيكون وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، حاضراً في بيروت نهاية الشهر الحالي أو بداية الشهر المقبل، لتلمّس مدى التقدّم على خط تعهدات "سيدر".

لكن ما تعوّل عليه الحكومة اللبنانية ليكون خشبة خلاص لها في مرحلة اقتصادية دقيقة هي الأخطر منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية وسقوط حكومة عمر كرامي، يبدو أنه بات سراباً، خصوصاً وسط حالة من شبه اليقين لبنانياً، وفق المصادر الحكومية، بعدم إمكانية التزام لبنان بتعهداته، وخصوصاً على صعيد محاربة الفساد، الملف الذي لم تحقق الحكومة فيه أي تقدّم، بسبب تورط الطبقة السياسية فيه، وبسبب المحاصصة التي ترسخت أصلاً في طريقة تأليف الحكومة.

لكن ليست فقط التعهدات المتعلقة بالإصلاح الإداري ووقف الهدر والفساد، ما يباعد بين لبنان وبين ما يريد الحصول عليه من "سيدر"، بل أيضاً التعهدات الأخرى المتعلقة بالالتزام بسياسة النأي بالنفس، وبالقرارات الدولية الخاصة بلبنان أي رقم 1701، و1559، وهو ما يعني بالحد الأدنى إعادة إطلاق حوار لبناني لبحث الاستراتيجية الدفاعية. أمام هذا الواقع، تبدو كرة ثلج التحركات الاعتراضية باتجاه التضخّم، وحتى لو نجحت في إقرار موازنة لا تستفز الشارع، إلا أن الواقع الاقتصادي وعدم قدرة الحكومة على التعامل معه، بعد أن بلغ من الخطورة مكاناً بات يتطلّب إجراءات حازمة وحاسمة، سيضعانها مجدداً أمام مواجهة مع الشارع، وربما مصير مشابه لمصير حكومة كرامي، مع اختلاف الظروف والتوقيت.

المساهمون