لبنان العربي ومروّجو حلف الأقليات

28 يونيو 2019
+ الخط -
يعتقد كثيرون أن لبنان لم يكن يوماً بلداً مستقلاً وذا سيادة بالمعنى الحقيقي والفعلي، على اعتبار أن السيادة والاستقلال ليسا مجرد شعارات، وأن الدولة لا تصبح سيدة قرارها بمجرد إعلان قيام السلطة والمؤسسات، بإدارة من تم اختياره من أهلها وإشرافه. وهذا ما حصل طوال عقود منذ إعلان الاستقلال عن الانتداب الفرنسي عام 1943، بتداولٍ للسلطة عبر انتخاب رئيس للجمهورية كل ست سنوات، وانتخاب برلمانٍ مدته أربع سنوات، يمنح بدوره الثقة للحكومات المتعاقبة ومحاسبتها ومراقبة عملها، عملاً بالنظام الديموقراطي البرلماني الذي اختاره اللبنانيون. حصل هذا بانتظام أكثر من ثلاثين سنة، وهي طبعاً مدة ليست طويلة في عمر الدول والشعوب، إلى أن اكتشف اللبنانيون فجأة أن مؤسساتهم هشّة، وبلدهم غير محصّن، وليست لديه المناعة الكافية لمواجهة التحديات. والأهم أنهم اكتشفوا أنهم ليسوا أسياد أنفسهم، وأن سياسييهم ليسوا على قدر المسؤولية، ولا أصحاب قرار مستقل كما ينبغي، تجسيداً لاستقلال البلد وسيادته على أراضيه. لبنان الحرية، لبنان التنوع السياسي والتعدد الطوائفي والمذهبي، لبنان الغنى الثقافي والحضاري، لبنان بمسيحييه روّاد النهضة العربية، لبنان الانفتاح على الغرب وملجأ المضطهدين والملاحقين في دنيا العرب، لبنان النموذج بالنسبة لكثيرين... غرق عام 1975 في أتون حربٍ أهليةٍ دامت خمس عشرة سنة.
حرية لبنان وتعدّده وانفتاحه لم تشكل له حصناً منيعاً في وجه ما يجري حوله، ولا في صد 
أطماع بعض من حوله. اكتشف اللبنانيون أن البنيان، مهما كان جميلاً ومريحاً في داخله، لا حيلة له في الثبات والازدهار والديمومة، إذا لم يكن محاطاً بجيرانٍ أخلاء وأحرار، ومتصالحين مع ذاتهم! اكتشف اللبنانيون أنهم أرض سائبة ومستباحة، وأن بلدهم لا حدود رسمية مرسّمة له، لا مع سورية التي لا تزال ترفض ترسيم الحدود، ولا مع إسرائيل بطبيعة الحال.. لقد بدا لبنان، في حقبة معينة، وخصوصاً بين الخمسينيات والسبعينيات، بمثابة واحةٍ للحرية والتعبير، ومختبر للصراع السياسي وللتفاعل الثقافي بين اللبنانيين وبينهم وبين العرب، وسط الضجيج القومي وقرقعة السلاح واستغلال لشعارات الثورة وتحرير فلسطين الجذّابة. وبما أن أنظمة الحكم المحيطة، صاحبة تلك الشعارات، كانت قلاعاً مقفلة من الداخل في وجه الحرية والانفتاح والتفاعل، كان لا بد من تقويض تلك التجربة التي اسمها لبنان، الذي لا يحكمه نظام، منعاً لانتقال العدوى.. فكانت الحرب العبثية التي دمرت لبنان وتركيبته، ومزّقت نسيجه الاجتماعي والثقافي، وحوّلت نموذج العيش المشترك الذي تغنّى به بابا روما يوحنا بولس الثاني إلى صراع مذهبي مقيت، لا يزال يتفاعل ويزداد تعصباً وسوءاً، فتحول إلى ساحة "قتل فيها المسيحيون وقُتلوا وتقاتلوا في ما بينهم"، على ما جاء في نصوص المجمع الكنسي الماروني الصادر عام 2006، الذي أجرى مراجعةً نقدية للحرب. وكان لكل دولة أو طرف خارجي وإقليمي "نصيبه" فيها، إذ حاول كل منهم جرّ لبنان أو بعضه إلى جانبه عبر تبنّيه واحداً من الأحزاب والتنظيمات والمليشيات المسلحة على الأرض، وإذا اقتضى الأمر السيطرة على قرار طائفةٍ بكاملها، ثم تأليبها على الأخرى، أو تحريض طرفٍ لبناني على الفلسطينيين، والعكس صحيح. فيما كان تدمير المؤسسات ونهب المصارف وضرب الاقتصاد قائماً على قدم وساق، فعراق صدام حسين دعم وسلح طرفاً، وليبيا القذافي دعمت وسلحت أطرافاً أخرى، وإسرائيل تبنت فريقاً، وسهرت على تأجيج نار الفتنة بين مختلف الأفرقاء، بالتنسيق الضمني مع بعض الأطراف القومية والعروبية. وهناك من تولى اغتيال المثقفين ورجال الفكر وتصفيتهم، إلا أن حصة الأسد في كل ما جرى كانت للجار الأسد الذي أحكم قبضته على السلطة السياسية، حكومة وبرلماناً، وعلى الأمن والحدود والمعابر، وما زالت أصابعه تعبث إلى اليوم في الداخل اللبناني! غير أن قلاع تلك الأنظمة الشمولية التي تحوّل بعضها إلى ما يشبه السجون، ما لبثت أن انهارت، هي الأخرى، بفعل رياح الحرية والتغيير التي راحت تعصف من الخارج، وبفعل التطور التكنولوجي الذي اقتحم الداخل، وشرّعه على الخارج. انطلقت الشرارة من بيروت عام 2005 على إثر اغتيال رفيق الحريري، فأخرجت انتفاضة 14 آذار الجيش السوري من لبنان، ثم لحقتها انتفاضات "الربيع العربي" في 2011 من أجل الحرية والكرامة الإنسانية.
ووسط هذا الزلزال الذي غيّر وجه المنطقة ووجهتها، تبدو مهمة إعادة بناء دول حرة ومجتمعات ديموقراطية تحترم الإنسان أصعب بكثير من مهمة الثورة على ما كان قائماً من أجل تغييره. وعادت فكرة المواطنة والدولة المدنية تشق طريقها في لبنان نحو تجديد ميثاق العيش معاً، ورفضاً لهيمنة أمراء الطوائف والمذاهب والمليشيات الذين يتمترسون اليوم وراء طوائفهم ويمتهنون الفساد صفقاتٍ وحصصاً، ففيما تسعى دول وقوى إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء عبر اللجوء إلى خيار الدولة الدينية، واستخدام ورقة الإرهاب، يذكّر متنورون دارسي التاريخ بما طرحه قبل مائة سنة البطريرك الماروني إلياس الحويك، عندما سافر إلى باريس عام 1919، ليطالب بقيام دولة لبنان الكبير على أساس "الوطنية السياسية لا الدينية"، لأن ما كان يفكر به ليس وطناً للموارنة، كما كان الفرنسيون يحبذون، وإنما بلد نموذجي يعيش فيه معاً أبناء الطوائف المسيحية والإسلامية الذين سكنوا في جبل لبنان أو لجأوا إليه هرباً من الاضطهاد! ولاحقاً، وبعد أن أصبح لبنان دولة مستقلة قائمة على التعدّد السياسي والطائفي، 
انطلاقاً من ميثاق 1943 الذي ارتكز على تفاهم ماروني - سني، انبرى الإمام الشيعي محمد مهدي شمس الدين في ثمانينيات القرن الماضي، إلى طرح الدولة المدنية صيغة حل للبنان المركّب والمتعدد الطوائف. وقد كرّر رأيه القاطع أن الشيعة لا يمكن إلا أن يكونوا جزءاً أساسياً مكوناً لمجتمعهم، وأن لا يخترعوا لطائفتهم أدواراً خاصة بها أو من خارج الحدود!
لا وجود للبنان إذاً خارج صيغة العيش المشترك، وإذا لم يكن نموذجاً لصيغة العيش معاً. لا معنى لوجوده إذا لم يكن تعدّدياً، سياسياً وطائفياً وثقافياً. ولكي يحافظ على وجوده ودوره ومستقبله، عليه أن يعود ويستلهم الماضي وروّاده، من الحويك إلى شمس الدين، ومن بطرس البستاني إلى إبراهيم اليازجي إلى أحمد فارس الشدياق وجبران خليل جبران، وإلى بشارة الخوري ورياض الصلح. هؤلاء روّاد النهضة العربية، وليس دعاة تقوقع أو حكم الأقليات، انطلقوا من مواقعهم الروحية والطائفية والسياسية والثقافية إلى رحاب الوطن الأوسع. والتعدّد يعني أن يتشارك الجميع، من دون استثناء، في هذه الصيغة، وليس الطوائف الكبرى أو المميزة، ويتم تهميش الطوائف الصغرى أو المغبونة أو المعتبرة أقلية. نجح المسيحيون في تأسيس دولة لبنان وإقامتها، لأنهم كانوا أصحاب نظرة شمولية ودعاة نهضة، ما مكّنهم من إيجاد موطئ قدم للبنان بين الأمم. لم يعتبروا يوماً أنهم ليسوا جزءاً أساسياً من هذا الشرق العربي، فلم يحاولوا قط إقامة حلفٍ يجمع الأقليات و"الصغار" للاستقواء بهم، ولا فتشوا عن حمايةٍ لدى "الكبار". لا بل على العكس كانوا دائماً، كما كان لبنان، في طليعة قضايا المشرق العربي، ساعين إلى المساهمة في تعزيز دوره وحلّ مشكلاته، والتوفيق بين جيرانه العرب. لذلك، لا يمكن أن يذهب هدراً ما حققه "الربيع العربي" للشعوب، التي انتفضت من أجل انتزاع الحرية واستعادة الكرامة. ولبنان الحر، بحكم تركيبته وتنوعه وموقعه، لا يمكنه أن يستعيد سيادته وسلامه الداخلي، من دون فضاء عربي حر، رحب، ديموقراطي ومتضامن، تحكمه المصلحة العربية، بغض النظر عن ألوانه الطائفية والمذهبية وحدوده الجغرافية.
5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.