انجرّ الحريري سريعاً خلف طرح الحكومة الموسعة، وذكرت مصادر مطلعة لـ"العربي الجديد" أن "الأولوية بالنسبة له كانت تأليف حكومة بأسرع وقت ممكن، للقيام بالمهمة الإنقاذية المنوطة بالحكومة، والسير بالإصلاحات المطلوبة من أجل مؤتمر سيدر. وأنه وفق ذلك ظنّ أن ضمّ جميع القوى السياسية إلى حكومة ثلاثينية، سيؤمّن مظلة وطنية للمهمة الإنقاذية والإصلاحات المطلوبة، لكن ظنونه اصطدمت عند أول امتحان مرتبط بتوزيع الحصص الحكومية، بسبب التجاذبات وحسابات ربطها البعض بالمعارك النيابية والرئاسية المرتقبة بعد نحو ثلاثة أعوام. أدرك كثيرون سريعاً أن تأليف حكومة موسعة لن يكون مهمة سهلة، في مرحلة ما بعد الانتخابات النيابية، التي شهدت إعادة رسم المشهد السياسي العام، وتحديد أوزان القوى السياسية وطنياً وعلى صعيد الطوائف ذاتها، مفرزة سيطرة شبه كاملة لمحور "الممانعة"، وتراجعاً كبيراً لتيار "المستقبل" وما كان يسمى قوى "14 آذار"، وتحجيماً للحزب "التقدمي الاشتراكي".
هذا الواقع كله دفع الحريري ومن حوله أخيراً، وفق معلومات "العربي الجديد"، إلى "العودة ولو بخجل للبحث في إمكانية تأليف حكومة مصغرة، لكن الطرح اصطدم بفيتو مباشر من قبل حزب الله أبلغه إلى رئيس الجمهورية ميشال عون، متمسكاً بالحكومة الموسعة وبتمثيل مختلف القوى السياسية في الحكومة". مع ذلك انطلق الحريري في عملية جس النبض الذي بدأ أواخر العام الماضي، معتبراً أن طرح الحكومة المصغّرة يمكن أن يؤدي إلى الحدّ من الخلافات الوزارية، وإلى تمثيل القوى الرئيسية في البلاد، وتحييد القوى الأقل حضوراً، فتكون حكومة يتمثل فيها "حزب الله" و"أمل" وتيار "المستقبل" و"التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" والحزب "التقدمي الاشتراكي"، وبالتالي تشكيل حكومة من 14 وزيراً فقط. وكان يومها عون في جوّ هذا الطرح، وبدا نسبياً متحمساً له، على الرغم من أن حساباته لم تكن تتطابق مع حسابات رئيس "التيار الوطني الحر" وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل، الذي بدا ميالاً إلى الحكومة الموسعة، وما تؤمنه من حضور وازن وكبير لتياره في الحكومة وتالياً في الدولة.
منذ أيام بدأ طرح الحكومة المصغرة يشكل عاملاً ضاغطاً، على الرغم من إدراك الجميع أن "حزب الله" لا يمكن أن يقبل بهذا الطرح، الذي دعا إليه قبل أشهر طويلة حزب "الكتائب" عبر رئيسه النائب سامي الجميل، قبل أن يتلقفه البطريرك الماروني بشارة الراعي، ويكرره في أكثر من محطة ومناسبة، وصولاً إلى حزب "القوات اللبنانية"، الذي أعلن نائب رئيسه، النائب جورج عدوان، في حديث تلفزيوني أن "حكومة مصغرّة من اختصاصيين يمكن أن تشكّل حلاً للأزمة الحكومية".
لا شك أن ما طُرح حتى الساعة لم يشمل طرحاً متكاملاً بل محاولات للضغط وجسّ النبض لا أكثر، على الرغم من أن سيناريوهات الحكومة المصغّرة وُضعت على الطاولة، وبات محسوماً مثلاً عددها، بعد إسقاط فكرة "حكومة الـ18 وزيراً" لمصلحة "حكومة الـ14 وزيراً"، بوصفها ممكنة على صعيد تقاسم الوزارات بين الطوائف الرئيسية (الموارنة، السنّة، الشيعة، الدروز، الروم الأرثوذكس، الروم الكاثوليك) في البلد.
وكشفت مصادر لـ"العربي الجديد" أنه "بات محسوماً في لبنان أن أي حكومة من 14 وزيراً لا يمكن أن تكون حكومة اختصاصيين حصراً، بل حكومة تتمثل فيها الأحزاب الرئيسية مع تفضيل تسميتهم لاختصاصيين، على أن تكون حكومة شبيهة بحكومة نجيب ميقاتي الأولى التي شكّلها في عام 2005 إثر اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري، وكانت مهمتها إجراء الانتخابات النيابية، وضمّت وجوهاً تكنوقراطية، لكنها مقرّبة من الأحزاب والقوى الرئيسية، خصوصاً في الوزارات السيادية (المال، والداخلية، والدفاع، والخارجية)".
وعلى الرغم من نضوج شكل الحكومة المصغرّة ودورها، وتصاعد الدعوات الداخلية إلى اعتبارها "حلاً ممكناً"، إلا أن أحداً لم يقدم هذا الطرح جدياً على بساط البحث بسبب معارضة "حزب الله" له كلياً. وهنا يُحمّل البعض مسؤولية تأخر طرح هذا الحل إلى الحريري شخصياً، وكذلك إلى انفراط عقد تحالف "14 آذار" الذي سمح بتعامل "حزب الله" مع القوى التي كانت منضوية في هذا التحالف بالمفرق. كما يحمّل البعض الحريري مسؤولية خسارة أكثر من مقعد نيابي، بسبب تباعد القوى الرئيسية الثلاث في هذا التحالف السابق (المستقبل والقوات والاشتراكي) والشخصيات المستقلة في أكثر من منطقة، وتحالف بعضها مع شخصيات محسوبة على "حزب الله" والنظام السوري، بعد أن وجدت نفسها وحيدة في المعركة.
يصلح الحديث عن تحالف "14 آذار" السابق واستفراد "حزب الله" بتيار "المستقبل" و"القوات اللبنانية" والحزب "التقدمي الاشتراكي"، للحديث عن أسباب وقوف "حزب الله" في وجه طرح الحكومة المصغّرة وتمسكه بالحكومة الموسعة وضغطه لتمثيل كل القوى السياسية في البلد في الحكومة.
لا شك أيضاً أن الانتخابات النيابية أفرزت واقعاً لا يمكن التغاضي عنه، وهو تحوّل "حزب الله" عددياً إلى الحزب رقم واحد في البلد، وإن كان هذا لم ينعكس عددياً على صعيد عدد النواب، بسبب تقسيم المقاعد طائفياً في البلد، وكذلك نجاح وجوه محسوبة عليه وعلى النظام السوري. فمنذ انتهاء الانتخابات، بدا واضحاً أن لبنان دخل في مرحلة إطباق سيطرة "حزب الله" والقوى الحليفة معه على هذا البلد. هذا الخطاب يبدو محسوماً بالنسبة لكثر في الساحة السياسية اللبنانية، خصوصاً "المستقبل" و"الاشتراكي" و"القوات اللبنانية"، لكن أحداً منهم ليس في وارد مواجهة هذا النفوذ، بل الأولوية دائماً لمقولة لبنانية تقول: "عند تغيير الدول احفظ رأسك". ينطلق الابتعاد عن مواجهة "حزب الله" سياسياً من عوامل عدة، لعل أولها التخبّط إقليمياً لدى راعي هذه القوى السياسية، أي السعودية، ويعود أيضاً إلى ما أفرزته الساحة السورية بعد سنوات من الصراع العسكري، ويعود أيضاً إلى أولويات مختلفة لدى هذه القوى. فقد باتت أولوية "القوات اللبنانية" التمدد ضمن البيئة المسيحية، وهو ما نجحت به، وليس الخطاب الوطني العام. واختار "الاشتراكي" منذ أحداث 7 مايو/ أيار من عام 2008 حماية الطائفة الدرزية من الصراعات. أما تيار "المستقبل" فيعيش منذ سنوات تخبطاً على الصعد التنظيمية والقيادية والشعبية والمالية، أدى إلى تراجعه، معطوفاً على القانون الانتخابي الأخير، الذي جرّده على صعيد كتلته النيابية من حضوره الوطني وأعاده تياراً يمثل الطائفة السنية حصراً.
يدرك "حزب الله" هذا الواقع، وعموماً يتعاطى منذ الانتخابات النيابية على أنه الأقوى، ليس بسبب السلاح حصراً، وأدواره الإقليمية، بل أيضاً بسبب الأرقام التي أفرزتها الانتخابات. وربما قد تكون المرة الأولى التي ينجح فيها "حزب الله" في الدخول على خط السياسية اللبنانية من البوابة السياسية وليس من بوابة فائض القوة، مثلما حصل يوماً لدى تطويقه السراي الحكومي باعتصام مفتوح أيام حكومة فؤاد السنيورة (2006 ـ 2008) أو عندما استخدم سلاحه في الداخل اللبناني في عام 2008، أو عندما هدّد بالقمصان السود في عام 2011 بعد إسقاط حكومة الحريري الأولى، منهياً مرحلة "سين سين" السياسية (الاتفاق السعودي ـ السوري على إدارة لبنان بعد الحرب اللبنانية).
بدورها، ذكرت مصادر لـ"العربي الجديد" أن "حزب الله متمسك كلياً بتمثيل شخصيات درزية وأخرى سنية من خارج الحزب التقدمي الاشتراكي وتيار المستقبل، خصوصاً أنه يعتبر أن المرحلة السياسية تسمح للحلفاء ضمن هاتين البيئتين بالقول إنهم حاضرون، وبالتالي تحجيم المستقبل والتقدمي وتحويلهما إلى لاعبين ضمن بيئتهما لا أكثر".
بالنسبة للحزب فإنه "يعتبر أن الحضور ضمن الطائفة السنية بعد أن فاز 7 نواب محسوبين عليه من أصل 27 أسهل"، خصوصاً أنه رعى بقوة هذه الحالات ضمن مناطقها، وبالتالي باتت "حصاناً" لا يمكن التخلي عنه. أما المهمة ضمن البيئة الدرزية، فتبدو أصعب على "حزب الله"، بعد فوز طلال أرسلان بمقعد درزي وحيد، فيما فاز الحزب التقدمي الاشتراكي بـ6 (المقعد الدرزي الثامن عاد لأنور الخليل المحسوب على رئيس المجلس النيابي، رئيس حركة أمل نبيه بري). وربما لهذا السبب تتجه بعض الوجوه المحسوبة درزياً على النظام السوري و"حزب الله" إلى إعلان تحالف بينها تحت عنوان "المعارضة الدرزية"، على الرغم من نجاح القانون الانتخابي الجديد أساساً في تحجيم الحزب "الاشتراكي" على صعيد عديد أعضاء كتلته الذي بات 9 نواب فقط. وحدها "القوات اللبنانية" نجحت نيابياً، ولم يفلح القانون الانتخابي الجديد في تحجيمها، بل ارتفع عدد أعضاء كتلتها النيابية من 8 إلى 15 عضواً.
وأشارت مصادر مطلعة لـ"العربي الجديد" إلى أن "كل ما جرى يفسر انتقال العقد الحكومية من عقدة القوات، التي سعى خلالها البعض لتقزيم حصتها، إلى العقدة الدرزية التي حاول البعض من خلالها الضغط لسحب أحد المقاعد الدرزية من التقدمي، وصولاً إلى العقدة السنية لتكريس حضور قوى غير تيار المستقبل". وأكدت المصادر أن "خيار الحكومة المصغّرة وحده ممكن أن يشكّل عاملاً ضاغطاً على حزب الله، خصوصاً أنه يلقى قبولاً شعبياً، وكذلك بات يتردد على لسان شخصيات سياسية وازنة ودينية كذلك".