03 اغسطس 2022
لبنان.. التلفزيون ووهم صناعة الانتفاضة
في لبنان، كل شيء معلق ومشلول ومعطل، من رئاسة الجمهورية إلى النفايات في الشوارع، مروراً بالبرلمان والحكومة والكهرباء والمياه والمؤسسات الاقتصادية والتجارية والسياحية، وحتى حركة السير على الطرقات و ... و...، لا أحد يدري كيف يتدبّر اللبنانيون أمورهم، وكيف يستمرون في الحياة.
لبنان على حافة الانهيار، لكنه لا ينهار، وهو على شفير الانفجار، لكنه لا ينفجر. كل شيء من حوله ملتهب، لكن النار لا تصل إليه (أو لم تصل إليه بعد). طبعاً، يحتاج البلد إلى انتفاضة شاملة على الطبقة السياسية التي أوصلته إلى هذه الكارثة. ولكن، لا أحد ينتفض، وكل شيء يبدو كأنه معلق، لأن الناس واقعة في شباك ثنائية السلاح والمذهبية التي تكبله من كل الجهات. وكل هذا "الشلل الخلاق"، الآخذ بالتفاقم منذ نحو سنة، كان يحظى، حتى الأمس القريب، بتغطية روتينية ومشوهة من وسائل الإعلام، وما أكثرها، مكرسة حال الشلل والانقسام، ومغلبة المتاريس الحزبية والمذهبية، إلى أن غرقت الشوارع بالنفايات، واقتحمت روائحها المنازل، فكانت بمثابة الشرارة التي دفعت مجموعة من الشباب للنزول إلى الشارع، للتعبير عن غضبها، ورفع شعار "طلعت ريحتكم" في وجه السياسيين. عندها، قررت فجأة إحدى محطات التلفزة تصدّر قيادة الثورة، وتبني الحراك المدني والتحريض على الانتفاضة. ففتحت الهواء للشارع، وراحت تسترسل في تغطيات مباشرة ساعاتٍ وساعاتٍ متتالية، لاغية أو مؤجلة برمجتها المعتادة على مدى الأسبوع. وأصبح البث المباشر سيد الشاشة، وتولى مجموعة من مراسلي القناة، وليس مراسلاً واحداً، التغطية المباشرة من أكثر من موقع، ومن أكثر من زاوية في الساحة، حيث يوجد المعتصمون.
يتحرّك المراسلون، المتحمسون جداً والمُعمم عليهم ترويج حركة الشارع، بنقل، ليس الوقائع كما هي، وكما تحدث، وما يقوم به ويقوله المتظاهرون، مع بعض الإيضاحات، بطبيعة الحال، للمشاهد كما تتطلبه ضرورات المهنة وأصولها، وإنما لتوجيه المعتصمين وتحريضهم على السلطة السياسية، والدفع باتجاه تصعيد المواجهات مع قوى الأمن وتضخيم الإشكالات التي تحصل معها. ويواكب التغطية المباشرة والبث الطويل من الاستوديو الصحافي منسق البث ومعه ضيف، (سياسي سابق أو مناضل سابق وممانع حالي) يغوصان معاً في التنظير لأهمية التحرك وأحقية المطالب، ويقدم المناضل السابق النصح للشباب في الشارع بضرورة تكثيف الضغط على السلطة الفاسدة، ورفع شعار "الشعب يريد إسقاط النظام". فأي نظام هذا الذي تريد القناة إسقاطه، فيما يشكو اللبنانيون من عدم وجود نظام، ولا أنظمة تحترم. وهي التي كانت على مدى السنين من المحبين للطبقة السياسية ولسلطة الوصاية السورية.
وفي صباح اليوم التالي، وفيما ساحة وسط بيروت مقفرة، لأن لا حشد ولا من يحتشدون، تستنبط القناة الحلول الخلاقة والمسلية، لشد وجذب اهتمام سيدات المنازل، خصوصاً التي ينتظر بعضها رؤية أولاده في ساحة الاعتصام. أظهرت القناة أن لديها ماكينة للتعبئة والحشد والتجييش، أين منها ماكينات الأحزاب الأكثر جماهيرية. فمنذ قبل العاشرة، وفي مشهد سوريالي، تنصب خيمة يتمركز تحتها المراسل، وأمامه ضيفه في وسط الساحة، تحت ظلال تمثال الشهداء، تحيطهما الشعارات الثورية والمطلبية التي كان يرفعها المعتصمون في الليلة التي سبقت. ويبدأ البث المباشر، ويدور النقاش حول ما حصل أمس، و"القمع الشديد" الذي تعرّض له المتظاهرون. ثم ينتقل الكلام إلى ضرورة التحضير للحشد المسائي وكيفية إنجاحه، إلى درجة أنه خيّل لبعضهم أن القناة هي المنظم الحقيقي والفعلي لانتفاضة الشباب الناقم على السلطة الفاسدة. وهكذا دواليك، بأسلوب ديماغوجي لتعبئة الهواء طوال ساعات النهار، من أجل إثارة مشاعر الناس في منازلها، واستغلال نقمتها المشروعة ضد الحكومة والطبقة السياسية.
وفي نشرة الثامنة مساء، أي في ساعة ذروة استماع المشاهدين، تطلق القناة العنان لمقدمة سياسية، هي بمثابة افتتاحية تذكّر بنشرات أخبار الأنظمة البائدة، سرعان ما تتحول إلى مضبطة سياسية اتهامية وفضائحية بحق السلطة والسياسيين وزعماء الأحزاب، من دون أن تخفي انحيازها لبعضهم، على الرغم من نقمتها المعلنة على كل الطبقة السياسية (!). والمفارقة في الأمر أن هذه المحطة، ومن أجل ركوب حركة الاعتراض الشبابي المفاجئ واحتضانها وتوظيفها، لجأت إلى الاستعانة بأحد الصحافيين "اليساريين" الشباب الذي كان قد شغل منصب مدير الأخبار لديها، وغادرها قبل فترة وجيزة. لماذا؟
المفارقة الأكثر دلالة وإحراجاً لثورة هذه القناة تكمن في أن الحراك المدني، فور نزوله إلى الشارع، اتهم كل الطبقة السياسية بالفساد، وكان الشعار الأكثر تعبيراً ووضوحاً هو "كلن يعني كلن" (أي الجميع فاسدون بدون استثناء). وتجسيداً لهذا الشعار، رفع المعتصمون، في أولى الأمسيات، صور جميع السياسيين بدون استثناء، وكُتب تحتها "كلن يعني كلن" فاسدين. وكانت القناة من أشد المتحمسين لرفع هذه الصور، وتسليط كاميراتها على الشعار. وكما باقي السياسيين، رفعت صورة الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، إلى جانب صور "السياسيين الفاسدين" الآخرين، لأن عدداً من قيادييه ومسؤوليه متورط فعلا بفضائح وصفقات مالية في أكثر من مرفق عام. فوقعت الواقعة، واحتج هذا الحزب، وهدد المعتصمين، ومارس ضغوطه على المحطة، وهددها بقطع البث، إذا لم تزِل صورة نصرالله من بين الفاسدين في مشهديتها في التغطية المباشرة، فرضخت المحطة للتهديد باعتراف رئيس مجلس إدارتها، وأزيل هذا الحزب وزعيمه من بين الفاسدين. وراحت القناة تتراجع عن حملتها الديماغوجية و"الاستئصالية"، بالتوازي مع تراجع شباب الحراك عن مطالبهم بإسقاط النظام والحكومة، وحصرها فقط بالضغط لإيجاد حل لمشكلة النفايات.
وهكذا، تبخر البث المباشر، وتكسرت "ثورة" القناة أضغاث أحلام تحت مطرقة رهبة الحزب وسلاحه الذي يعتبر نفسه "حزباً طاهراً"، وغير معني بمحاربة الفساد، بحسب ما أكد نصرالله نفسه، والذي اعتبر أن حزبه يخوض عدة معارك على أكثر من جبهة ضد إسرائيل (!)، وفي سورية دفاعا عن بشار الأسد. أما لبنان، فليس وقته الآن، ولا وقتك أيتها المحطة.
لبنان على حافة الانهيار، لكنه لا ينهار، وهو على شفير الانفجار، لكنه لا ينفجر. كل شيء من حوله ملتهب، لكن النار لا تصل إليه (أو لم تصل إليه بعد). طبعاً، يحتاج البلد إلى انتفاضة شاملة على الطبقة السياسية التي أوصلته إلى هذه الكارثة. ولكن، لا أحد ينتفض، وكل شيء يبدو كأنه معلق، لأن الناس واقعة في شباك ثنائية السلاح والمذهبية التي تكبله من كل الجهات. وكل هذا "الشلل الخلاق"، الآخذ بالتفاقم منذ نحو سنة، كان يحظى، حتى الأمس القريب، بتغطية روتينية ومشوهة من وسائل الإعلام، وما أكثرها، مكرسة حال الشلل والانقسام، ومغلبة المتاريس الحزبية والمذهبية، إلى أن غرقت الشوارع بالنفايات، واقتحمت روائحها المنازل، فكانت بمثابة الشرارة التي دفعت مجموعة من الشباب للنزول إلى الشارع، للتعبير عن غضبها، ورفع شعار "طلعت ريحتكم" في وجه السياسيين. عندها، قررت فجأة إحدى محطات التلفزة تصدّر قيادة الثورة، وتبني الحراك المدني والتحريض على الانتفاضة. ففتحت الهواء للشارع، وراحت تسترسل في تغطيات مباشرة ساعاتٍ وساعاتٍ متتالية، لاغية أو مؤجلة برمجتها المعتادة على مدى الأسبوع. وأصبح البث المباشر سيد الشاشة، وتولى مجموعة من مراسلي القناة، وليس مراسلاً واحداً، التغطية المباشرة من أكثر من موقع، ومن أكثر من زاوية في الساحة، حيث يوجد المعتصمون.
يتحرّك المراسلون، المتحمسون جداً والمُعمم عليهم ترويج حركة الشارع، بنقل، ليس الوقائع كما هي، وكما تحدث، وما يقوم به ويقوله المتظاهرون، مع بعض الإيضاحات، بطبيعة الحال، للمشاهد كما تتطلبه ضرورات المهنة وأصولها، وإنما لتوجيه المعتصمين وتحريضهم على السلطة السياسية، والدفع باتجاه تصعيد المواجهات مع قوى الأمن وتضخيم الإشكالات التي تحصل معها. ويواكب التغطية المباشرة والبث الطويل من الاستوديو الصحافي منسق البث ومعه ضيف، (سياسي سابق أو مناضل سابق وممانع حالي) يغوصان معاً في التنظير لأهمية التحرك وأحقية المطالب، ويقدم المناضل السابق النصح للشباب في الشارع بضرورة تكثيف الضغط على السلطة الفاسدة، ورفع شعار "الشعب يريد إسقاط النظام". فأي نظام هذا الذي تريد القناة إسقاطه، فيما يشكو اللبنانيون من عدم وجود نظام، ولا أنظمة تحترم. وهي التي كانت على مدى السنين من المحبين للطبقة السياسية ولسلطة الوصاية السورية.
وفي صباح اليوم التالي، وفيما ساحة وسط بيروت مقفرة، لأن لا حشد ولا من يحتشدون، تستنبط القناة الحلول الخلاقة والمسلية، لشد وجذب اهتمام سيدات المنازل، خصوصاً التي ينتظر بعضها رؤية أولاده في ساحة الاعتصام. أظهرت القناة أن لديها ماكينة للتعبئة والحشد والتجييش، أين منها ماكينات الأحزاب الأكثر جماهيرية. فمنذ قبل العاشرة، وفي مشهد سوريالي، تنصب خيمة يتمركز تحتها المراسل، وأمامه ضيفه في وسط الساحة، تحت ظلال تمثال الشهداء، تحيطهما الشعارات الثورية والمطلبية التي كان يرفعها المعتصمون في الليلة التي سبقت. ويبدأ البث المباشر، ويدور النقاش حول ما حصل أمس، و"القمع الشديد" الذي تعرّض له المتظاهرون. ثم ينتقل الكلام إلى ضرورة التحضير للحشد المسائي وكيفية إنجاحه، إلى درجة أنه خيّل لبعضهم أن القناة هي المنظم الحقيقي والفعلي لانتفاضة الشباب الناقم على السلطة الفاسدة. وهكذا دواليك، بأسلوب ديماغوجي لتعبئة الهواء طوال ساعات النهار، من أجل إثارة مشاعر الناس في منازلها، واستغلال نقمتها المشروعة ضد الحكومة والطبقة السياسية.
وفي نشرة الثامنة مساء، أي في ساعة ذروة استماع المشاهدين، تطلق القناة العنان لمقدمة سياسية، هي بمثابة افتتاحية تذكّر بنشرات أخبار الأنظمة البائدة، سرعان ما تتحول إلى مضبطة سياسية اتهامية وفضائحية بحق السلطة والسياسيين وزعماء الأحزاب، من دون أن تخفي انحيازها لبعضهم، على الرغم من نقمتها المعلنة على كل الطبقة السياسية (!). والمفارقة في الأمر أن هذه المحطة، ومن أجل ركوب حركة الاعتراض الشبابي المفاجئ واحتضانها وتوظيفها، لجأت إلى الاستعانة بأحد الصحافيين "اليساريين" الشباب الذي كان قد شغل منصب مدير الأخبار لديها، وغادرها قبل فترة وجيزة. لماذا؟
المفارقة الأكثر دلالة وإحراجاً لثورة هذه القناة تكمن في أن الحراك المدني، فور نزوله إلى الشارع، اتهم كل الطبقة السياسية بالفساد، وكان الشعار الأكثر تعبيراً ووضوحاً هو "كلن يعني كلن" (أي الجميع فاسدون بدون استثناء). وتجسيداً لهذا الشعار، رفع المعتصمون، في أولى الأمسيات، صور جميع السياسيين بدون استثناء، وكُتب تحتها "كلن يعني كلن" فاسدين. وكانت القناة من أشد المتحمسين لرفع هذه الصور، وتسليط كاميراتها على الشعار. وكما باقي السياسيين، رفعت صورة الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، إلى جانب صور "السياسيين الفاسدين" الآخرين، لأن عدداً من قيادييه ومسؤوليه متورط فعلا بفضائح وصفقات مالية في أكثر من مرفق عام. فوقعت الواقعة، واحتج هذا الحزب، وهدد المعتصمين، ومارس ضغوطه على المحطة، وهددها بقطع البث، إذا لم تزِل صورة نصرالله من بين الفاسدين في مشهديتها في التغطية المباشرة، فرضخت المحطة للتهديد باعتراف رئيس مجلس إدارتها، وأزيل هذا الحزب وزعيمه من بين الفاسدين. وراحت القناة تتراجع عن حملتها الديماغوجية و"الاستئصالية"، بالتوازي مع تراجع شباب الحراك عن مطالبهم بإسقاط النظام والحكومة، وحصرها فقط بالضغط لإيجاد حل لمشكلة النفايات.
وهكذا، تبخر البث المباشر، وتكسرت "ثورة" القناة أضغاث أحلام تحت مطرقة رهبة الحزب وسلاحه الذي يعتبر نفسه "حزباً طاهراً"، وغير معني بمحاربة الفساد، بحسب ما أكد نصرالله نفسه، والذي اعتبر أن حزبه يخوض عدة معارك على أكثر من جبهة ضد إسرائيل (!)، وفي سورية دفاعا عن بشار الأسد. أما لبنان، فليس وقته الآن، ولا وقتك أيتها المحطة.