تركت هذه التقارير مسؤولي الأجهزة الأمنية في الشمال في حال قلق وتخوّف من إعلان التنظيم المتشدّد قيام فصيل له في لبنان، خصوصاً أنهم يعلمون جيداً أنّ الأرضية الطرابلسيّة قابلة ومنفتحة على فكر مماثل.
يدرك مسؤولو الأجهزة الأمنية، ومن فوقهم في السلطة السياسيّة التي توجّههم، أنّ الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والنفسي في الشمال عموماً، وفي طرابلس خصوصاً، لن يكون إلا عاملاً مساعداً على انخراط قسم غير صغير من المجتمع الطرابلسي في مشروع التكفير والدولة الإسلامية.
عمليات أمنية
عادت الأحداث الأمنية إلى طرابلس، بعد هدوء دام نحو ستة أشهر. أبرز هذه الأحداث الأمنية تجلّى بعمليات إطلاق نار على وحدات الجيش المنتشرة في المدينة، وكان آخرها يوم الثلاثاء الماضي، وقضى نتيجتها الجندي محمد خالد حسين، إثر اعتداء مسلّح على مركز عسكري في منطقة البداوي. سبق ذلك، تعرّض ثلاثة مراكز عسكرية تابعة للجيش في محلة التبانة وشارع سورية والبيسار(جميعها في طرابلس)، إلى إطلاق نار أدّى إلى إصابة عسكريين اثنين. كما انفجرت عبوة ناسفة بالقرب من مقرّ عسكري في شهر أغسطس/آب الماضي.
ترافقت هذه الأحداث مع عودة نغمة إلقاء القنابل الصوتيّة واليدويّة في أحياء مختلفة، بينما تعمل وحدات الجيش على تعزيز مواقعها وآلياتها. كما شهدت طرابلس، في غضون أسبوعين، عمليتي تصفية لرجلين، الأول فايز بزّي (متّهم بالتعاون مع حزب الله)، والثاني فيصل الأسود (قيل إنه يعارض المجموعات المتشدّدة والمسؤولين فيها).
برز في طرابلس إذاً، نفس أمني عدائي تجاه الجيش، وإلغائي لأي فرد "متورّط" في مشروع سياسي أمني مع الخصم، أو مشكوك بكونه خارجاً عن التشدّد ويواجهه. دوّن المسؤولون الأمنيون في تقاريرهم ومحاضر تحقيقاتهم أسماءً وألقاباً، وتبيّن لهم وجود أكثر من مجموعة أمنيّة ارتكبت هذه الاعتداءات وخطّطت لها. وبحسب هذه التحقيقات، ثمّة مجموعة في منطقة البداوي (أحد الأحياء الكبرى شمالي طرابلس)، عُرف منها شابان فقط، ويجري العمل على كشف باقي أفرادها والمنضوين تحت جناحها، وهم قد نفذوا أكثر من اعتداء على الجيش. كذلك، هناك مجموعات صغيرة أخرى في أحياء مختلفة من المدينة، منها ما هو في "الأسواق القديمة" والقبة والتل، إضافة إلى منطقة باب التبانة، التي تشهد صعود نجم ابنيها أسامة منصور وشادي المولوي على مستوى التشدّد والتكفير.
داعش في الشكل
تساهم كلّ هذه الأسماء والمعلومات في إرباك الدولة في طرابلس. وعلى الرغم من جدّية الأحداث المتواترة في المدينة، لا يزال رجال الدين الطرابلسيين غير مؤمنين بقدرة هذه المجموعات على الانخراط في مشروع "الدولة الإسلامية". مجموعة البداوي، مثلاً، أعلنت شفوياً مبايعتها خليفة "داعش"، أبي بكر البغدادي، "لكنّ شكل هذه المجموعة لا يوحي لا من قريب ولا من بعيد بكونها جزءاً من مشروع الدولة الإسلامية في لبنان"، وفق ما يؤكده أحد المشايخ السلفيين في المدينة. تحاول مجموعتا البداوي ومنصور التشبّه بـ"داعش" و"جبهة النصرة"، في خطابها ولهجتها وممارسات أفرادها اليومية. فيتمّ تكفير الدولة والجيش وتوعّد حزب الله، وتتخذ من "أهل السنّة" عنوان حربها وحملها للسلاح.
يقول أحد المطلعين على عمل الأجهزة الأمنيّة في طرابلس لـ"العربي الجديد"، إنّ "مراقبة اتصالات وتحرّكات هذه المجموعات مستمرةّ، وقد تبيّن تواصلها مع أفراد في سورية". لكنّ هذا التواصل، على ما يبدو، بقي حتى الآن على هذا المستوى الفردي، ولم يتطوّر إلى مستويات تنظيميّة أو ماديّة أو أبعد من ذلك، ولو أنّ جهات رسمية لبنانية وضعت الاعتداءات على المدنيين والجيش في اليومين الأخيرين، في إطار انصياع هذه المجموعات وراء نداء المسؤول الإعلامي في "داعش"، أبي محمد العدناني، الداعي إلى قتال العسكريين والمدنيين في الدول المشاركة في الحرب على "الدولة الإسلامية".
نشاط داعش في طرابلس
كلّ هذه الإشارات والوقائع تبقى غير جازمة بوجود تنظيم "داعش" في مدينة طرابلس، لكنّ وجوده فعلياً على الأرض اللبنانية، بهذا الاسم أو تحت اسم آخر، لم يعد مسألة مهمّة، باعتبار أنّ ممارساته باتت تُرتكب هنا، وكذلك أفكاره ودعواته. يقدّم أحد المطلعين على خفايا التنظيمات المتشدّدة وأسرارها، رواية حول دخول "داعش" إلى طرابلس. ويقول: "التنظيم جنّد قبل أشهر الشيخ ع. ا. للعمل على تأسيس نواة لـ"داعش" في المدينة. هو رجل دين، ذو تاريخ جهادي حافل منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، خاض تجربة "جماعة التكفير والهجرة" وأحداث "الضنية" عام 2000، وكان على تماس وتواصل مع أكثر من فصيل متشدّد على مختلف الأراضي اللبنانية. ولم يوقف نشاطه وقناعاته الجانحة باتجاه التكفير، على الرغم من سجنه سنوات طويلة في هذا الملف، وكان اسمه لا يزال على لوائح المطلوبين في الخطة الأمنية التي نفذتها الدولة اللبنانية خلال شهر مارس/آذار الماضي".
يضيف المصدر ذاته: "وصلت ليد الشيخ المذكور، أموال وتجهيزات، وباشر العمل على مشروعه الذي على ما يبدو اصطدم بمعوّقات كثيرة، منها ما هو جغرافي وسياسي، وآخر شخصي. ففشلت خطوة داعش في طرابلس قبل أشهر، وأعلمت قيادة التنظيم عدداً من رجال الدين المهتمين بمشروع مماثل أنّ "التنظيم لا يثق بأي شخصية أو شيخ لبناني لتولي مسؤولية تأسيس فرع له في لبنان". وهذه قناعة سابقة توصّل إليها تنظيم القاعدة، بحسب العارفين في آليات عمله. ونتيجة هذه الخلاصة والفشل الذي سبقها، يقتصر عمل "داعش" في شمالي لبنان على تأمين خروج عشرات الشبان من مرفأ طرابلس باتجاه الأراضي التركية، ومنها إلى العراق وسورية، للالتحاق بجيش الدولة الإسلامية. يدخلون مدرسة للإعداد الفكري والتثقيف الديني، ويخضعون لدورات عسكرية ويُمنعون من العودة إلى لبنان حتى لا يجري توقيفهم، بحسب أكثر من مصدر ديني وأمني. وفي سياق متصل، ترجّح مصادر أمنية ضلوع شخص سوري وآخر عراقي، بعملية التجنيد المتواصلة في طرابلس، وهما مسؤولان مباشران في التنظيم ولم يتّضح بعد "تورّطهما في العمل على إعادة تأسيس خلية لداعش على الأراضي اللبنانية".
وصلت داعش، بشكل أو بآخر، بهذا الاسم أو بغيره، إلى لبنان من غربه لا من شرقه. يستفيد التنظيم من حمّى التحريض المذهبي والقتل على الهوية، أكان بحدّ السكاكين أم بالبراميل المتفجرة. وبيدو أن دخوله إلى ساحة طرابلس بات سهلاً بفعل عوامل عديدة، استجدّ عليها غياب القيادات السنيّة القادرة على امتصاص الشارع ومخاطبته، إضافة إلى ضرب الدولة لآخر الملاجئ الدينية، هيئة العلماء المسلمين، التي كانت تملأ هذا الفراغ وتلعب بين هوامش ردّ الاعتبار لأهل السنّة من دون تجاوز خطّ التكفير والإرهاب.