لا تقتلوا الأموات

03 سبتمبر 2016
+ الخط -
لم يبق في بلدنا شيء يمتلكه بعضهم لم يحسده آخرون، حتى الذين ذهبوا إلى الحياة البرزخية وسكنوا التراب حُسدوا على نومهم في مقابرهم، فزاحمهم الأحياء سكنهم، ناقلين إليهم عبثية الحياة التي رحمهم الله منها.
في القاهرة، حيث تسير إلى مقابر الأموات لتترّحم عليهم، لن تجد هيبة الأموات والرهبة تسيطر على المكان، كما في باقي محافظات الجمهورية، فقد جاورهم الأحياء ممّن ضاقت بهم الحياة، ولم يجدوا ما يؤون إليه سوى أحواش الموتى، فاتخذوا منها جدراناً وأسقفاً تأويهم من مشكلات الشارع.
مشكلة سكان المقابر في القاهرة كما يحكيها التاريخ لم تكن حديثة، بل إنّ المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي ذكر في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" أنّ نابليون بونابرت، قائد الحملة الفرنسية، هو أوّل من أصدر مرسوماً بإخلاء المقابر من سكانها.
وتتوالى الأحداث وتمرّ السنين، إلى أن يأتي العدوان الثلاثي على مصر، وتأمر الحكومة المصرية وقتها بإخلاء سكان مدن القناة من منازلهم، كي لا يتعرّضوا للقصف المستمر، فيخرج السكان متجهين في شتى مناطق الجمهورية، فبعضهم ذهب إلى منازل أقاربهم، وآخرون إلى مساكن الإيواء، وهناك من ذهب لمرافقة الموتى وسكنوا أحواش المقابر.
ومع بداية غلاء الأسعار في مواد البناء وإيجار الوحدات السكنية وتركيز التنمية على مدينة القاهرة، وبدء الهجرة من الريف إلى المدن، ظهرت المناطق العشوائية المبنية خارج الإطار الرسمي لخطة الإسكان المتبعة بمصر، إذ لجأ بعضهم ممّن هاجروا من الريف إلى القاهرة لسكن أحواش المقابر.
النظام الاجتماعي المترابط والتشابك الأسري، هو أول ما يبحث عنه صانعو القرار عند وضع مخططاتهم الاستراتيجية أو تنمية مجتمع ما، الأمر الذي ينعدم تماماً داخل حيّز سكان المقابر، فإن مجتمع المقابر يسيطر عليه سمة الخوف والعزلة الاجتماعية، فإذا حلّ الليل أغلقت الأبواب، وسيطرت الرهبة من الموتى وأساطير حياة الجن على الأطفال، فيزرع فيهم الخوف في سن مبكرة.
يسيطر على إدارة تلك المناطق مجموعة من "التربية"، وهم بمثابة أصحاب الأحواش، وهم من يؤجرون الحواش الذي هو "غرفة وأمامها فراغ به المقبرة وبها حمام" للسكان، وكلّ مجموعة من التربية يقودهم "المعلم"، والذي هو بمثابة المنظم للقانون الداخلي بالمنطقة، وحلقة الوصل بين هؤلاء السكان والجهات التنفيذية.
وكمثيلاتها من المناطق العشوائية، يسيطر على تلك المناطق الجهل والفقر وتسرّب الأطفال من التعليم، بسبب عدم مقدرة أولياء الأمور على مصاريف التعليم وحاجتهم إلى الدخل من عمالة الأطفال تحت سن 15 سنة.
في بعض مناطق دفن الموتى، أنشأت ما تعرف بالجزر السكانية، وهي تجمعات سكانية ممتدة داخل منطقة المقابر، نتيجة تطوّر المناطق المجاورة لها، فأصبحت وسائل المواصلات تدخل إلى تلك المناطق، والتي تمتد بالطبع في محيط المقابر، وإنّ عملية تخطيط المقابر في القاهرة ناجحة بعض الشيء، تفتقدها بعض المناطق السكنية في مصر، حيث تمّ تخطيط مناطق المقابر على مساحات واسعة تحتوي على فراغات كافية، وروعي التدرّج الهرمي في أحجام الشوارع الرئيسية والممرات.
إنّ منطقة سمتها الرئيسية العزلة الاجتماعية، ويسيطر عليها الخوف والجهل والفقر، هي بيئة خصبة لانتشار الجريمة وملجأ حصين وأمين لإقامة الهاربين والخارجين عن القانون، والاتجار في المواد المخدرة وانتشار الإدمان، فإنّ تلك البيئة الخصبة للجريمة جعلت الخارجين عن القانون مطمئنين في أثناء تنفيذ جرائهم من دون الخوف من وجود أمني أو اعتراض أحد من السكان، فانتشرت في تلك المناطق سرقة جثث الموتى والاتجار بالأعضاء، وخطف الفتيات واغتصابهن، والقتل وإخفاء جثة القتيل بأحد المقابر الخالية، وسرقة البوابات الحديدية للأحواش.
كل هذا يحدث خارج الوجود الأمني، بسبب أنّ تلك المناطق هي مناطق إسكان غير رسمي، ولا توضع في حسبان المؤسسات الحكومية في أيّة إحصائيات رسمية صادرة من الدولة.
إنّ حل مشكلة مليوني ونصف المليون هم سكان المقابر، بحسب احصائيات غير رسمية تتمثل في حل مشكلة الإسكان العشوائي في باقي مناطق الجمهورية، بوضع سياسة إسكان عادلة وتوفير وحدات سكنية بديلة، والخروج من وادي النيل والدلتا إلى مناطق أخرى صالحة للسكن، بعد تهيئة الظروف للعيش والعمل فيها. لكن، لم تظهر أيّ من الحكومات السابقة سياسة واضحة في التعامل مع مناطق المقابر المكتظة ليست فقط بالموتى، بل بالأحياء المتقاسمين معهم موتهم وترابهم.

2309A16C-1CB8-4926-B1E0-167B16A00E80
2309A16C-1CB8-4926-B1E0-167B16A00E80
إبراهيم عزالدين (مصر)
إبراهيم عزالدين (مصر)