لا تصدقوا الخبراء الغربيين
بعض مما يستدعي الغضب هو شيزوفرينيا الخبراء الغربيين. وقد اطلعت، في حياتي العملية، على دراسات وكتب، وقابلت خبراء غربيين كثيرين، واجتمعت مع عدد من مراكز دراساتهم، وشاركت في ندوات عديدة لهم.
ويصر الخبراء الأوروبيون والأميركان على رؤيتنا قبائل وعشائر ومذاهب وطوائف متناحرة، ويركّزون جل جهدهم على تنظيم العلاقة بيننا، منطلقين من "حقيقة" أننا طوائف متناحرة إلى الأبد. يصرون على تذكيرنا بأننا لسنا مواطنين سواسية في بلداننا، أو يمكن أن نكون كذلك، فإن نسينا ذكّرونا بأننا مسلمون ومسيحيون وعلويون ودورز وإسماعيليون، وأيضاً، إن كنا مسلمين، فنحن شيعة وسنة، وإن كنا مسيحيين، فيذكّروننا بأن الأرثوذكس غير الكاثوليك.
يجهدون أنفسهم في رسم خرائط مجتمعاتنا على هذا الأساس، يصرّون على إقناعنا بهذا المنطق، ثم يأتون ليقدموا لنا وصفات التعايش بين فرق مختلفة، يريدون إثبات الاختلاف وترسيخه، لكي يتحدثوا عن حصص "الأقليات" وأقلياتهم، عملاً بمنطقهم، يجب أن يكون هناك أقليات واختلافات لكي يؤكدوا على تقديم ضمانات لها. أذكر، مثلاً، كتاب الباحث الأميركي، فلنت ليفيريت، "اختبار بشار بالنار" الذي صدر عام 2005، بدأ برسم خريطة تفصيلية للطوائف والمذاهب والقوميات في سورية، وأماكن تموضعها، واتخذها بوابة لتحليل سورية ومشكلاتها.
هم يدعوننا لأن نرتدي مذاهبنا كقلادة فوق صدورنا، علامة فارقة وهوية، لا أن نخفيها تحت الثياب، يختزلون الهوية بعامل المذهب، يريدون أن يكون ثوبنا المذهبي خارجياً، نرتديه فوق الثياب ليشكل هويتنا، وليس قميصاً داخلياً نرتديه تحتها، بما يعني أنه موجود، لكن دوره ثانوي. يصرون على أن ألوان قمصاننا المذهبية مختلفة، بل متناقضة، وربما متعادية، وتحتاج لتنظيم العلاقة العدائية بينها. هم يدعوننا لنبش الخلافات من القبور، وننشرها على الملأ.
كنت سأفهم هذا المنطق، لو كانوا ينظرون لبلدانهم بالطريقة نفسها، ففي بلدانهم، يؤكدون على المساواة والمواطنة وسيادة القانون إلخ. لا يقبلون تفسير الصراع في مجتمعاتهم على أنه صراع بين كاثوليكية وبروتستانتة، ولا يفسرون الصراع مع روسيا على أنه بين الكاثوليكية والأرثوذكسية إلا بحدود، فهم يتحدثون بالسياسة والمصالح، وتبقى الفروق الدينية عاملاً ثانوياً في تحليلاتهم مجتمعاتهم.
لا شك أن مجتمعاتهم أقل تطييفاً وتمذهباً من مجتمعاتنا بكثير، بل تميل أوروبا، اليوم، إلى أن تكون ملحدة. لكن، كنت سأفهم لو حللوا ضعف سيادة القانون وقيم المواطنة وحقوق الإنسان وقيم المجتمع الحديث في بلداننا، وأن عوامل الدين والمذهب والعشيرة تلعب دوراً قوياً، وهذا واقع، وأن يفعلوا هذا لكي يضعوا في دراساتهم مقترحات وبرامج لتعزيز سيادة القانون وقيم المواطنة، وإضعاف تحديد هوية الأفراد والجماعات في بلداننا، على أساس ديني ومذهبي، بما يعني أن يسهموا بدفع مجتمعاتنا نحو الحداثة، لكنهم، بتحليلهم هذا، إنما يدفعون مجتمعاتنا إلى الوراء.
حتى لا نقع في التعميم، قابلت خبراء غربيين، لا يذهبون هذا المذهب، ويقدمون تحليلاً أكثر واقعية، ينطلق من حرص على أن تتقدم بلداننا في مضمار الحداثة وقيم المجتمع الحديث، لكن غالبية المؤسسات الرسمية، وشبه الرسمية، ومراكز البحوث المدعومة من دولها ورجال السياسية والخبراء وأساتذة الجامعات ينحون هذا المنحى.
المسألة لا تبقى مجرد رأي خبراء، بل تنعكس في السياسة. فيوم جاءت فرنسا إلى سورية، أقامت خمس دويلات، ولم يوحدها سوى الشعور الوطني السوري، عندما قررت فرنسا الانسحاب من سورية عام 1943. وفي العراق أسقطوا نظام صدام حسين 2003، لكي يقيموا استبداداً مذهبياً بديلاً، ويسلموا العراق لإيران، ما دفع الصراع المذهبي إلى القمة، وأنتج في النهاية داعش، كما دعموا إقامة إقليم للأكراد في شمال العراق، مستقل كلياً، ولا يرتبط بالعراق سوى بخيط واه يمنع انقطاعه اعتراض الأتراك على استقلالهم الكلي، وسارعوا للتدخل في عين العرب، وسكانها من الأكراد، لحمايتها من هجوم داعش، بينما لم يبذلوا أي جهد مماثل تجاه عشرات المدن والبلدات التي تحتلها داعش في سورية اليوم. ويقدم بعض خبرائهم، اليوم، مقترحات لتقسيم سورية على أساس مذهبي.
يجب أن يستدعي هذا التحليل الغربي الفهم، أكثر مما يستدعي الغضب. وفي الواقع، لم أستطع فهم منطقهم هذا، فهل هو سوء معرفة وسوء تقدير؟ أم هل هو سوء نية؟ هل هو جزء من استراتيجية؟... ولماذا؟
على الرغم من أن أحداث سورية والعراق وليبيا واليمن وأفغانستان ونيجيريا وغيرها، تقدم لهم، اليوم، مادة غنية، تعزز ما يذهبون إليه، فلا يمكننا أن نصدقهم، بمعنى أن نعد هذا واقعاً وحقيقة ثابتة غير قابلة للتغيير، إذ لا يمكن أن نبني مجتمعاتنا على أنها مجموعات متناحرة، يفرقها المختلف أكثر مما يجمعها المشترك، وأن هذه هي طبيعة إنساننا الثابتة، وطبيعة مجتمعاتنا الثابتة. فحتى السبعينيات كانت هذه "الهويات القاتلة"، بتعبير الروائي اللبناني أمين معلوف، قد شهدت تراجعاً على مدى نصف قرن سابق، بينما تقدمت قيم القومية التي تصهر الجميع في مصهر واحد، تقوم على مقومات وضعية، ولقيت قيم المجتمع الحديث حول المواطنة والحرية والديمقراطية وحقوق الفرد وحقوق الإنسان انتشاراً أوسع. حينها كانت أوروبا تنظر إلى بلداننا العربية على أنها عربية، وليست إسلامية، وتراها من منظور قومي وليس مذهبياً، ومن منظور من هو قريب من المعسكر الشرقي، ومن هو قريب من معسكرهم، وكانت انتقاداتهم تنصب على العروبة، وكان عدوهم جمال عبد الناصر وليس أسامة بن لادن. ولكن، ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، وخصوصاً بعد حرب أفغانستان، وسعي الغرب نفسه إلى التأجيج الديني، لاستخدامه ضد التدخل السوفييتي "الكافر" في أفغانستان "المسلمة"، إضافة إلى موجة ضخ أموال كثيرة تدعم جمعيات ودعاة ووسائل إعلام تروج التعصب. كلها ساهمت بهذا الانقلاب. هذا يشير إلى أن الوضع القائم ليس قدراً، وأن المطلوب تغييره، وليس ترسيخه.
بهذا المعنى نقول: لا تصدقوهم، فتسيروا خلف هذه الأفكار، فتزيدوا الطين بلة.