لا تخبروا أحداً

أقول هذه الكلمات وأأتمنك عليها. أقول هذه الكلمات فيتنفّس القلب ويرتجف، فأوصيك بها على الفور. هل عاملتها كأنّها سرّك؟ أتحفظها من هذه الرغبة في البوح؟ ضعها في مكان يعشقه الغبار حتى تختفي. اتركها للتاريخ. فكلّما كبرنا، اختلفت قراءتنا للأسرار. وما الداعي لها بعد الموت؟ كثيرون حملوها معهم إلى موتهم وضاعت تماماً كأنّها لم تكن يوماً. ربّما نجد كلمات مبعثرة في حلم أو ذكريات ونحاول تركيبها. هكذا نعيش عمراً مضاعفاً، نكتم أسراراً ونبحث عن أخرى.

والأسرار ليست إلّا اكتشافات يوميّة. نسمّي مشاعر أو أحداثاً أسراراً، فتصير أسراراً. قبل يوم واحد فقط، لم يكن لها وجود. كنّا أحراراً من تفاصيل يجب إبقاؤها في مكان ما. كأنّنا نرتدي أكثر من بلوزة في وقت واحد. والطقس حار، لا يتطلّب كل هذه الأقمشة.

في روايته "1948"، كتب جورج أورويل: "إذا أردت أن تحفظ سرّاً، يجب أن تخفيه عن نفسك". وتشير دراسات عدة إلى أنّه مهما كان الشخص جديراً بالثقة، إلا أنّ العقل البشري يفشي الأسرار في النهاية. وربّما تأتي هذه اللحظة حين تنتهي صلاحيّة الأسرار. مع الوقت، يخفّ تأثير كل الكلمات، الإيجابية منها والسلبية، الجميلة والبشعة. وما كان قاسياً بالأمس، يصير لطيفاً اليوم. هذا دوراننا في الحياة وفي كوكب متحرّك يحفظ أسراراً أكبر ويكشفها لها حين تتعفّن في داخله، فيرميها.

ماذا تكون الأسرار؟ مشاعر نقول إنّها تخصّنا وحدنا لأنّنا نخشى أن يقال إنّنا ضعفاء. لم تخلق جميع الكائنات لنحبّها أو نكرهها. هذه حريّتنا على الأرض. حريّة تحتاجنا بأن نمارسها. البحر أمامنا. من آمن بقدرته على حفظ الأسرار؟ ربّما لا يسمعها أو يفضحها جميعها حين يخرج عن طوعه، ويقتل الآلاف من البشر الذين كان يمكن لهم أن يلجؤوا إليه لمشاركته أسرارهم.

يخشى الناس من الأسرار وعليها. كأنّها وصمة ترافقهم. هي ماضٍ يتجدّد. والموت لا يحمينا منها تماماً. ثمّة أحياء يملكونها وقد يتناقلونها بعدما حفظوها طويلاً. ماذا يمكن أن يحدث لو قيلت كلّ الأسرار؟ سرٌّ تلو الآخر وحيوات تنكشف، كما لو أن الصور القديمة كانت مجرّد كذبة. أهون هو العيش في الكتمان كأنّنا نرتدي قميصاً واسعاً ونترك فراغات نملؤها بالأسرار. هكذا يقول كثيرون ولا يقولون أسرارهم. هذه الملكيّة التي تثقل قلوبهم. يخشون على صورتهم، أو خسارة آخرين، أو إيذاءهم. يخشون نتائج قد تكون أقسى من الواقع.

لكنّ لا أسرار في الحياة. نخترعها لأن فيها متعة. ولا تخبروا أحداً.