لارس فون ترير وهواجس العمارة والجحيم

17 سبتمبر 2018
ديلون في منزل لارس فون ترير (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
يقول الدنماركي لارس فون ترير (1956) إن كتابته سيناريو "المنزل الذي بناه جاك" (2018) سريعةٌ. جينول هالِند، مستشارته في كتابة السيناريوهات، تقترح عليه إنجاز فيلمٍ عن الجحيم: "بعد تفكير كثير، أُقرِّر التركيز على قصّة قاتل متسلسل. فشخصية قاتل كهذا تتيح منح الفيلم خطًّا توجيهيًا: من ستكون ضحيته المقبلة". هذا يُحيل إلى فيلمه الأول "عنصر الجريمة" (1984)، الذي يتناول الموضوع بعمق وتكثيف. يقول ترير إنه يريد لمشروعه الجديد هذا أن يتشكَّل من حلقات عديدة: "في النهاية، يُركّز الفيلم على النساء اللواتي هنّ من الأشخاص الطيبين، على نقيض هذا الرجل، جاك، الذي هو تجسيد الشرّ".

إذًا، سيظهر الجحيم الذي يستقبل جاك (مات ديلون ـ 1964) في نهاية المطاف. سيكون تصويره (مانويل ألبرتو كلارو ـ 1970) مُدهشًا ومُثيرًا لمتعة العين، ولانفعالاتٍ تجعل صاحبها يتأمّل ذاك العالم المخفيّ. فالجحيم، مع لارس فون ترير، لن يكون مجرّد نار تلتهم أشرارًا، وإنْ تظهر النار بأشكالٍ تُضيف إلى الجحيم جمالية مستلّة من جماليات الصورة السينمائية، بل أشبه باحتفال بالموت والعذاب والألم.

غير أن الدرب إلى جحيم جاك طويلٌ ومليء بالدم والعنف والجنون الذي يرتفع بصاحبه إلى ذروة الإبداع. فجاك مهندس معماريّ، ولارس فون ترير لن يتردّد في إعلان "إعجابه" بالمهندس الألماني ألبرت سبير (1905 ـ 1981)، وزير التسلّح والإنتاج الحربي في "الرايخ الثالث". المفارقة الخارجة على السينما أن إدارة مهرجان "كانّ" السينمائيّ التي تطرد السينمائي الدنماركي أثناء الدورة الـ64 (11 ـ 22 مايو/ أيار 2011) بسبب تصريحات له تعكس إعجابًا بأدولف هتلر (1889 ـ 1945)، هي نفسها التي تختار "المنزل الذي بناه جاك" لعرضه خارج المسابقة الرسمية في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018)، وفيه تلك المشاهد البديعة عن العمارة التي تحمل هواجس سبير ورؤيته الفنية والجمالية.


يروي جديد لارس فون ترير حكاية مهندس يمارس عنفًا على ضحاياه قبل قتلهم. تغلب النساء على ضحاياه، لكن المرأة الأولى التي يُعلِن بقتلها أنه سيسير على هذه الطريق (أوما ثورمون ـ 1970) تبدو كأنها تستحق تعنيفًا قاسيًا بسبب "ثرثرتها القاتلة" وتعليقاتها غير المنتهية حول شعورها بأن الرجل ـ الذي تفرض نفسها عليه لإيصالها إلى ميكانيكيّ يُصلح سيارتها المعطّلة، وهو جاك نفسه ـ يبدو لها قاتلاً متسلسلاً. مشهد طويل نسبيًا، لكنه مُشبع بحوارات ولقطات وإضاءة تكشف كلّها انفعالات وهواجس، قبل انتهائه بنظرة جاك (يبرع ديلون بتأدية تفاصيله النفسية والروحية والفكرية، ومخاوفه وقلقه وارتباكاته، وأفعاله أيضًا) التي تعكس البداية الفعلية لمساره الدموي الطويل.

غير أن القتل المتسلسل لن يكون مجرّد فعلٍ جرميّ بحت، لأنه يحمل في طياته ومساراته ونتائجه وأشكاله ومفاصله تساؤلات شتّى عن الموت والعلاقات والذنب والخطيئة والمصير الفرديّ والتمزّق الذاتيّ، وعن معنى الهندسة وآلية البناء والأشكال التي تتّخذ من أجساد الضحايا أسسًا عمرانية تعكس نظرة فنية للبناء بجانبيه المباشر والاستعاريّ.

لـ"المنزل الذي بناه جاك" جوانب كثيرة تُغري المهتمّ بأكثر من مُشاهدة وبأكثر من قراءة، تبقى هذه إحداها.
المساهمون