كي لا تتكرّر مأساة مضايا

15 يناير 2016
+ الخط -
نتيجة الوساطات الدولية، ومساعي الأمم المتحدة الحثيثة، تقرر أخيراً أن تدخل شاحنات محملة بالمواد الغذائية إلى داخل بلدة مضايا السورية المحاصرة أكثر من ستة أسابيع؛ حيث قضى جوعاً أكثر من 23 شخصاً. كما ظهرت في وسائل إعلام عديدة عربية ودولية صور لبعض الأهالي بانت عليهم مظاهر الضعف الجسدي الواضح، كما أن أكثر من عائلة حاولت الخروج، لكنها قتلت بالألغام المزروعة حول البلدة.
ومع ترحيبنا المبدئي بهذا الانفراج المتجسد بدخول المواد الغذائية، وإن تأخرت، إلى المدينة الجائعة، لا بد لنا من التساؤل، من ناحية إنسانية بحتة، كيف أننا وصلنا إلى وضعٍ يستعمل فيه تجويع السكان المدنيين أداة للجبهات المتصارعة، ما جعل مضايا رمزاً للامبالاة غير المسؤولة.
حتى الآن، هناك أكثر من أربعة ملايين مواطن سوري غادروا سورية، هرباً من الحرب، وأصبحوا لاجئين في دول مجاورة أو بعيدة. وهناك حوالى خمسة ملايين مهجرين داخل سورية خارج مدنهم وقراهم، وكأنهم أصبحوا بمثابة غرباء في وطنهم.
نشير إلى هذا الواقع الأليم الذي يتنافى مع تاريخ سورية وتقاليدها، كما عرفناها، وكما نتمنى لها استرجاع وحدتها، مثلما كانت دائماً "قلب العروبة النابض".
السنوات الخمس الماضية حرمت سورية من دورها المميز في ترسيخ عروبة الأمة، ونتمنى لها استعادة هذا الدور الرئيسي في رسالتها الموحدة، لا لسورية فحسب، بل للوطن العربي كله. وإذا كانت هذه الرغبة تستوجب صلابة الالتزام للعمل في هذا الاتجاه، فمن الضروري تسريع الحل السياسي الذي ترعاه الآن روسيا والولايات المتحدة والأمم المتحدة، والسعي إلى إبعاد الأزمة في العلاقات بين السعودية وإيران، بحيث يأتي الحل السوري في منأى عن هذا الخلاف الذي ينبغي أن يكون عابراً، مع الأخذ بالاعتبار تاريخ سورية ومستقبلها، ومعالجة الأسباب التي أدت إلى هذا الواقع في الداخل السوري، والذي استمر هذه السنوات. كما يجب أن لا يكون هذا من باب التمني، بل ينبغي اتخاذ خطوات سريعة، ولكن غير متسرعة، من أجل ضبط الأوضاع وإعادة بناء الدولة ومؤسساتها، لتسريع إعادة البنى التحتية فيها.
وعلى الرغم من صعوبات الأوضاع وتعقيداتها، والمعاناة الحاصلة في هذه السنوات الطويلة، علينا كلنا أن نحتضن النقلة النوعية التي تخرج سورية من وضعها المأساوي، لكي تعود إلى استقرارٍ يمكّنها من استعادة رسالتها القومية.
كما علينا أن ندرك أن استعادة العافية لن تكون سهلة أو سريعة، لكن هذه الاستعادة يجب أن تحصل، وأن تكون الجهود، في هذا السبيل، مدعومة من سائر الدول العربية، مع الاستعانة بالمفكرين والملتزمين العرب الموجودين بكثافة، أولاً لتأمين قواعد الحلول السلمية، وثانيا لعودة البناء والشعور بالمواطنة ومسؤولياتها، بعيداً عن كل الانقسامات والسلوكيات المذهبية والطائفية والعرقية، التي ساهمت في استفحال الأزمة وتعقيد الحلول. هذا يجب أن يحصل في أقرب وقت ممكن، حتى نتمكّن من إعادة التنسيق الملزم بين الدول والمجتمعات العربية بفعالية، ما يمهد للتكامل العربي الذي بدونه تبقى الأمة بدون البوصلة التي تهدي إلى السبيل المؤدي إلى الحلول، ليس في سورية فحسب، بل على المستوى العربي بأسره.
وفي الختام، لا بد من أن نطالب، وبإلحاح، الدول المعنية مباشرة بالشأن السوري، والتي لها تأثير على مجريات الأوضاع القائمة، بأن تأخذ في الاعتبار الأوضاع الإنسانية التي يعاني منها الأبرياء، بحيث لا تتكرر مآس جديدة، كالتي حصلت في جميع أنحاء سورية، وأبرزها مأساة مضايا وغيرها من البلدات والقرى التي جرت محاصرتها، ومحاولة تجويعها، والتي دخلتها المساعدات في الأيام الأخيرة.
صور الجوع والانهيار والمجاعة، خصوصاً صور الأطفال، واضطرار السكان للجوء إلى أكل الأعشاب، تبقى عاراً، علينا جميعاً مَحْوُه، والالتزام بمنع تكراره في أي مكان من سورية والأمة. فما حصل في سورية مسؤولية عربية شاملة، ودولية، والتعهد بعدم السماح بتكرارها هو أيضاً مسؤولية عربية أولاً ودولية.