كي لا تبقى "داعش" في سورية

27 اغسطس 2014

مقاتلو الجيش الحر يرصدون "داعش" بالقرب من حلب (14أغسطس/2014/الأناضول)

+ الخط -

ما إن أعلنت "داعش" عن هجومها في شمال العراق، حتى خرجت أميركا عن سياساتها الانسحابية المعلنة، وبدأت ردود أفعالٍ تنضوي في ما يمكن اعتباره تدخلاً عسكرياً وسياسياً مباشراً في الوضع العراقي.
 
في الأيام الأولى، أخذ التدخل صورةً أثارت استغراب مَن سمعوا الناطقة الرسمية باسم واشنطن، وهي تعلن تنسيق الرد الأميركي مع حكومة نوري المالكي وجيشها الذي انهار بسرعة حزيرانية مباغتة. بعد أيام، وقع ابتعاد رسمي عن هذا الخط، اقتربت واشنطن معه من فكرةٍ رفعتها المعارضة العراقية، تقول بتشكيل حكومة وحدة وطنية متوازنة، تلبي رغبات الشعب العراقي ومطالبه، وخصوصاً منه السنّة الذين استبعدهم المالكي من الحكم والسلطة، وعرّضهم لمطاردات وتصفيات أمنية غير مسبوقة في تاريخ العراق، تقوّض ما بين مواطنيه من علاقات وطنية.

أخيراً، ابتعدت أميركا في خطوة ثالثة عن المالكي، وفهمت أن تمسكها به، أو بما أعلن عنه إياد علاوي من تفاهم مع طهران بشأن اتفاق على دعمه، يعني غرقها في مشكلاتٍ تفرض عليها إجراء تغيير جذري في استراتيجيتها الدولية ورفد "الخبراء" الذين أرسلتهم إلى بغداد وأربيل بجيوش محاربة تعود إلى العراق، وربما إلى سورية، مع ما سيعنيه ذلك من نقض لسياسات باراك أوباما، وتخلٍّ عن نظرياته في السياسة الخارجية.

انفكّ الأميركيون عن المالكي، واتخذوا موقفاً قوياً منه، كشف حجم دورهم ونفوذهم في بلد احتلوه، وخرجوا منه بطريقة خُيّل لبعضهم أنها سلّمت بأرجحية الدور الإيراني فيه، لكن سرعة تدخل البيت الأبيض أكدت ما كان يقال عن مسؤولياته الأمنية الوازنة تجاهه، واظهرت أنها مَن سيعيد، من الآن، ترتيب أوضاعه وليس إيران، حتى إن حدث ذلك بالتفاهم معها.

وقع التدخل، إذن، وكان هدفه داعش، التي تتعرض، منذ أسابيع، لغارات جوية أميركية يومية، كبحت هجومه على أربيل ومناطق النفط و"الأقليات" في سهل نينوى وسنجار، وأخرجته من مناطق استراتيجية وحسّاسة، كسد الموصل، ضمن خطة لاحتوائه وقصقصة أجنحته، مفتوحة على تصعيد محتمل سيفضي، إن وقع، إلى تطوير التدخل العسكري وتوسيعه ضده.

تقول المعلومات إن التنظيم يعيد ترتيب أوضاعه، ويعمل لتعويض هزائمه العراقية بانتصاراتٍ يحققها في سورية، حيث امتنعت واشنطن عن إعلان موقفٍ صريحٍ منه، أو أعلنت مواقف تفتقر إلى الانسجام، حرصت فيها على إبقاء ضربٍ من الغموض الخلاق في ما يتعلق بمواقفها المقبلة في بلاد الشام، على الرغم من أنها أبدت خشيتها من أن ينقل التنظيم ثقله الأكبر إليها، ويحولها إلى ركيزته الرئيسة، الأكثر تطرفاً وعنفاً، بينما يغدو العراق ساحة مناوشة وعراك مساعدة أو جانبية.

مهما كانت حسابات أميركا السورية، من الضروري أن يبادر "الائتلاف"، خصوصاً، والمعارضة عموماً، إلى القيام بكل ما من شأنه تشجيع العالم على نقل معركته ضد التنظيم إلى سورية، وذلك لا يكون فقط بعقد مؤتمرات صحافية، تطالب بتدخل عسكري، بل يتحقق في خطوات عملية فورية، عسكرية وسياسية، تبدأ بوضع برنامج عمل وطني مشترك، ومُلزم لقوى المعارضة الفاعلة والرئيسة، تتم بلورته بتعاون وتشارُك أطرافها، هدفه المباشر توحيدها، وفتح طريق الوحدة أمام المقاومة المسلحة، المتمثلة، أساساً، في الجيش الحر والتشكيلات التي تنسب نفسها إليه، مع إيلاء حرصٍ خاص على إحياء الحراك المدني والسلمي، وتوحيد حركة وأنشطة ما يسمونه الخارج والداخل. قد يقول قائل إن هذا الدرب سيكون طويلاً، وهذا صحيح قطعاً، لكن درب الألف ميل يبدأ بخطوةٍ يعني القيام بها البدء بجعله قصيراً، فكيف إن كانت صائبةً ومحكمة، علماً أن طول الطريق لا يعفي أحداً من طرقه، وفعل كل ما هو ضروري لاجتيازه بأقل قدر من الأخطاء والانقسام.

هذا المطلب العملي يُلزم قيادة الائتلاف وكتله إلى التواصل مع جميع أطراف المعارضة، ودعوتها إلى حوار وطني فوري، لوضع مسودة تتضمن ملامح من برنامج عمل وطني، يشارك الجميع في مناقشته واعتماده، تشجع النتائج التي ستترتب عليه، وطنياً، العالَم على الانخراط في الشأن السوري، وفق شروط سورية، وتدفعه إلى رؤية الأمور بأعيننا، ما دمنا سنقيم بفضل إرادتنا الموحدة أوضاعاً توحيدية، تنبذ التشتّت والتمزّق، تؤسس علاقات قوى داخلية محض سورية، تخدم شعبنا وثورته، وتضع حداً للاستقطاب الثنائي المتزايد بين النظام والتنظيمات الأصولية، والذي يخيف العالم من أن يورطه التدخل في قتال معهما، فيتحمل عبء القتال بالنيابة عن معارضةٍ لا تستحق أن يموت من أجلها جنوده، تفتقر إلى الأفكار والخطط والممارسات اللازمة، للوقوف على قدميها، ناهيك عن إغراء العالم بمساعدتها، بالنظر إلى أن أوضاعها الذاتية المتردية تحول دون قيامها، هي نفسها، بجهود مؤثرة ومنظمة، وتحول بين العالم وإمدادها بعونٍ يساعدها على حسم الصراع في سورية لصالح شعبها. 

من المستبعد أن تقبل واشنطن انتقال قوة داعش الرئيسة من العراق إلى سورية، إلا إذا كان صحيحاً ما يقال عن نيتها إثارة حرب سنية/ شيعية عامة، سيكون وأشباهه من تنظيمات التطرف والقتل الأعمى رأس حربة السنّة فيها. في هذه الحال، لماذا تسمح أميركا له بالخروج من العراق، إذا كان من الواضح أن خروجه سيقيّد قدرته على خوض حرب كهذه؟ لننسَ، الآن، هذه الفرضية التي تتحدث عن احتمال بعيد التحقُّق اليوم، ولنتذكر أن هناك مَن اتهم أميركا بضرب داعش، لأنها ضد انتشاره في كردستان ومناطق النفط، وتريد إرغامه على البقاء في غرب العراق، المجاور لشرق وشمال شرق سورية، أي لمناطق انتشار قواته قرب بلاد الشام.

ليس مؤكداً بعد أن أميركا ستكرر في سورية ما فعلته في العراق ضد داعش، خصوصاً إن كانت إيران ستتعاون مع واشنطن في بلاد ما بين النهرين، وكان وضع الائتلاف والمعارضة السورية سيبقى على ما هو عليه من تشتّت وعجز وحيرة، وكان التنظيم، السوبر/ قاعدي، سيقبل البقاء غربي العراق، حيث يُراد له أن يرابط، ريثما تتّضح صورة الوضع النهائية مع طهران في الأشهر المقبلة، ويكون في وسع أوباما تقرير خطواته اللاحقة في ضوء التفاهمات التي يجري التفاوض عليها منذ بعض الوقت مع طهران وإسرائيل، فإن حدث ووقع تدخل، فلكي تثبت أميركا للجميع أن دورها المباشر يبدّل أدوارهم، ويحجّم قدراتهم ونفوذهم، وأنها ليست مجرد متفرّج عن بُعد على حدثٍ خطير النتائج على الأوضاع الدولية، بل هي طرف فاعل، لا شبيه لقدراته، يلعب في كل مكان الدور الحاسم الذي يرسمه لنفسه ولغيره.

أما نحن، أهل الصبي، فلا يجوز أن نبقى على الحال الراهنة من الضعف والتمزّق، لأنها تعني انتفاء قدرتنا على التأثير في أي شأن من شؤوننا، بما في ذلك الأخطر والأكثر مصيرية بينها، وعجزنا عن الإفادة من أي موقف، مهما كان مؤيداً لنا، ونجاحنا في جعل الآخرين ينفرون منّا، ويحجمون عن التعامل الجدي معنا، لأننا لن نكون أهلاً للثقة بالنسبة إليهم، لكوننا لسنا أهلاً للثقة في ما بيننا، ولا نعرف ما نريد، ولا كيف نحقّق مصالحنا.

E4AA2ECF-ADA6-4461-AF81-5FD68ED274E9
ميشيل كيلو

كاتب سوري، مواليد 1940، ترأس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سورية، تعرض للاعتقال مرات، ترجم كتباً في الفكر السياسي، عضو بارز في الائتلاف الوطني السوري المعارض.