لا يزال "هافانا" (1990)، لسيدني بولاك، أحد أبرز الأفلام السينمائية الأميركية، التي التقطت لحظة التحوّل الحاصل في كوبا، على أيدي فيدل كاسترو وإرنستو "تشي" غيفارا، ورفاقهما. فرغم أن الفيلم، الذي أدّى روبرت ريدفورد الدور الرئيسي فيه، لم يتناول تفاصيل الثورة، ودروبها المؤدّية إلى الانتصار على الطغمة السياسية ـ الاقتصادية ـ المالية الحاكمة في الجزيرة، بقيادة الجنرال فولغنسيو باتيستا، إلاّ أن لحظة التحوّل تلك تبقى أساسية، في فيلمٍ لا يكتفي بسرد حكاية مُقامِر أميركي، يأتي سائحاً إلى هافانا، للتمتّع بلياليها المُضيئة بالسهر والكازينوهات والحياة التي لا تتوقف، بقدر ما يلتقط نبضَ الشارع الكوبي، ويُصوِّر، وإنْ بمواربة غير مقصودة ربما، أسباباً فاعلةً في انتصار الثورة، في الأول من يناير/ كانون الثاني 1959.
لكن فيدل كاسترو يُصبح، بعد استلامه الحكم في كوبا، "إيقونةً" لن تبقى أسيرة "النضال الثوري" في العالم فقط، بل أيضاً في السينما، التي تنوّعت أشكال تناولها، وتناقضت أهدافه، بحسب أهواء المخرجين والمنتجين، إلى درجةٍ أنّ مخرجاً سينمائياً أميركياً، يُعتَبَر أكثر السينمائيين مشاغبةً وتمرّداً على النظام الأميركي، يجد في الزعيم الثوريّ الكوبيّ غنىً إنسانياً وثقافياً وسياسياً، يُمكن جعله مادة درامية لسينما، تتحرّر من خطابية النضال المباشر، كي تغوص في أعماقِ رجلٍ وإنسانٍ وحَكّاءٍ جميل، ينفتح على الأدب والثقافة والحياة، من دون أن يتخلّى عن وظيفته كحاكمِ دولةٍ مُحاصَرَة، وكزعيم لا يُستهان بجبروته.
إنه أوليفر ستون، الذي يلتقي فيدل كاسترو مطلع الألفية الثالثة، ليُحقِّق، عنه ومعه، فيلماً وثائقياً بعنوان "كوموندانتي" (2003)، هو شهادة سينمائية، يُكملها ستون، في العام التالي، بوثائقيّ ثانٍ، "البحث عن فيدل"، الذي يُعرض، تلفزيونياً، ضمن سلسلة "أميركا السرّية".
الأفلام الوثائقية عن كاسترو كثيرة. وهذا عائدٌ، ربما، إلى مكانته الدولية كـ "ثائر أممي"، يُصبح الوثائقي، إزاءه، أقرب إلى سِيَر حياتية عديدة، تكشف بعض المخبّأ، إما معه كشخصية أساسية، وإما عبر أفعاله وأقواله وآليات حُكمه وتاريخه النضالي. ولعلّ تميّز "قصّة كوبية" (أو "الحقيقة بخصوص ثورة فيدل كاسترو")، الذي حقّقه مايكل روبّو عام 1959، يكمن في أنه أحد الأفلام الأولى التي واكبت تلك الثورة، وأحد أقرب الوثائقيات إلى قلب الحراك الثوري، والأقدر على توثيق اللحظة وقراءتها، وعلى نقل شيءٍ حيوي منها إلى المشاهدين المهتمين.
أما الحلقة التلفزيونية، من سلسلة "تجربة أميركية" (إنتاج محطة PBS)، بعنوان "فيدل كاسترو"، فتنقل صورةً مغايرةً لنظرة الأميركيين إليه، إذْ يراه كثيرون منهم حاكماً ديكتاتورياً، "يُدخِّن الكثير من السيجار". الحلقة تسرد مقتطفات من سيرته الحياتية، عائدةً إلى طفولته، وملتقيةً رفاق هذه الطفولة، الذين يصفونه بأنه "مجنون ومتهوِّر"، من دون أن ينسوا شخصيته المفعمة بالطموح، وحضوره المتميّز بالـ "كاريزما". والحلقة، إذْ تحتوي على معطياتٍ مختلفة من مراحل حياته، تكشف أن لحظة التحوّل الجذري في شخصيته وسيرته تحدث في السجن، بعد إلقاء القبض عليه من قِبَل رجال باتيستا.
هذه الحلقة ـ التي يصفها نقّادٌ أميركيون بأنها "درسٌ تاريخي، وقصة شخصية عن الوحشية والصمود" ـ تبقى شهادة مُصوَّرة، تعكس شيئاً كثيراً من حكاية الرجل مع الزمن والجغرافيا والانقلابات المختلفة، التي شهدها العالم حينها، والتي شهدها الزعيم الثوريّ نفسه، في حياته.
لكن، في مقابل هذا، يظهر فيدل كاسترو في أكثر من فيلم سينمائي، وثائقي وروائي، يروي بعض السيرتين الحياتية والثورية لتشي غيفارا، الـ "إيقونة" الأولى للثورة الأممية، في خمسينيات القرن العشرين وستينياته، تحديداً. ولعلّ أحد أجمل المشاهد السينمائية، التي تعكس الرابطة الإنسانية الجامِعَة بينهما، قبل افتراقهما إثر نجاح الثورة، يبقى بدايات "تشي"، الذي حقّقه الأميركي ستيفن سودربيرغ عام 2008، في جزأين اثنين.
سودربيرغ يوازن، إلى حدّ ما، بين سيرتي الشخصيتين، مع أن صنيعه السينمائي برمّته يرتكز على تشي وحكايته. في الفيلم، يظهر كاسترو في محطات كثيرة، كشخصية قوية ومُشارِكة فعلياً في النضال الثوري، لكن في ظلّ كاريزما تشي، الأقوى والأفعل والأكثر تأثيراً في الرفاق المناضلين، كما في العالم السياسي والاقتصادي الدولي، وإنْ يَكنّ هذا العالم شيئاً من العداء له. وإذا أبدى البورتوريكيّ بينيتشيو دل تورو (1967) براعةً أدائية مُبهرة، في تقديمه تشي، فإن المكسيكي دميان بيتشير ناجيرا (1963) لم يكن أقلّ براعةً منه في تأدية شخصية كاسترو، ما جعل حضورهما ـ كممثلين وكشخصيتين تتنازعان، وإنْ بشكل غير مباشر، سلطةً أو مكانةً أقوى وأكبر ـ إضافةً نوعية جميلة ومهمّة وأساسية، على فيلمٍ يتابع مسار تشي، ومصائره الكثيرة.
اقــرأ أيضاً
أخيراً، لا بُدّ من الإشارة إلى الوثائقي "سيكو" (2007) لمايكل مور، الذي يدور حول النظام الصحي البائس في الولايات المتحدّة الأميركية. فرغم أن مور ينتقد، بشدّة وعنف كلاميّ وبصريّ واضح، السياسة الصحية المسيئة لـ 45 مليون أميركي، إلاّ أنه يتّخذ من دولٍ عديدة أمثلةً على التفوّق الإنساني والعلميّ والقانوني والاجتماعي للسياسات الصحية فيها، ومن بينها كوبا، في ظلّ الحكم المتشدّد لفيدل كاسترو.
هذه نماذج قليلة، من بين أفلام سينمائية وتحقيقات تلفزيونية مختلفة، تدور كلّها حول مناضلٍ، يحتلّ مكانةً أساسية في وعي كثيرين.
اقــرأ أيضاً
لكن فيدل كاسترو يُصبح، بعد استلامه الحكم في كوبا، "إيقونةً" لن تبقى أسيرة "النضال الثوري" في العالم فقط، بل أيضاً في السينما، التي تنوّعت أشكال تناولها، وتناقضت أهدافه، بحسب أهواء المخرجين والمنتجين، إلى درجةٍ أنّ مخرجاً سينمائياً أميركياً، يُعتَبَر أكثر السينمائيين مشاغبةً وتمرّداً على النظام الأميركي، يجد في الزعيم الثوريّ الكوبيّ غنىً إنسانياً وثقافياً وسياسياً، يُمكن جعله مادة درامية لسينما، تتحرّر من خطابية النضال المباشر، كي تغوص في أعماقِ رجلٍ وإنسانٍ وحَكّاءٍ جميل، ينفتح على الأدب والثقافة والحياة، من دون أن يتخلّى عن وظيفته كحاكمِ دولةٍ مُحاصَرَة، وكزعيم لا يُستهان بجبروته.
إنه أوليفر ستون، الذي يلتقي فيدل كاسترو مطلع الألفية الثالثة، ليُحقِّق، عنه ومعه، فيلماً وثائقياً بعنوان "كوموندانتي" (2003)، هو شهادة سينمائية، يُكملها ستون، في العام التالي، بوثائقيّ ثانٍ، "البحث عن فيدل"، الذي يُعرض، تلفزيونياً، ضمن سلسلة "أميركا السرّية".
الأفلام الوثائقية عن كاسترو كثيرة. وهذا عائدٌ، ربما، إلى مكانته الدولية كـ "ثائر أممي"، يُصبح الوثائقي، إزاءه، أقرب إلى سِيَر حياتية عديدة، تكشف بعض المخبّأ، إما معه كشخصية أساسية، وإما عبر أفعاله وأقواله وآليات حُكمه وتاريخه النضالي. ولعلّ تميّز "قصّة كوبية" (أو "الحقيقة بخصوص ثورة فيدل كاسترو")، الذي حقّقه مايكل روبّو عام 1959، يكمن في أنه أحد الأفلام الأولى التي واكبت تلك الثورة، وأحد أقرب الوثائقيات إلى قلب الحراك الثوري، والأقدر على توثيق اللحظة وقراءتها، وعلى نقل شيءٍ حيوي منها إلى المشاهدين المهتمين.
أما الحلقة التلفزيونية، من سلسلة "تجربة أميركية" (إنتاج محطة PBS)، بعنوان "فيدل كاسترو"، فتنقل صورةً مغايرةً لنظرة الأميركيين إليه، إذْ يراه كثيرون منهم حاكماً ديكتاتورياً، "يُدخِّن الكثير من السيجار". الحلقة تسرد مقتطفات من سيرته الحياتية، عائدةً إلى طفولته، وملتقيةً رفاق هذه الطفولة، الذين يصفونه بأنه "مجنون ومتهوِّر"، من دون أن ينسوا شخصيته المفعمة بالطموح، وحضوره المتميّز بالـ "كاريزما". والحلقة، إذْ تحتوي على معطياتٍ مختلفة من مراحل حياته، تكشف أن لحظة التحوّل الجذري في شخصيته وسيرته تحدث في السجن، بعد إلقاء القبض عليه من قِبَل رجال باتيستا.
هذه الحلقة ـ التي يصفها نقّادٌ أميركيون بأنها "درسٌ تاريخي، وقصة شخصية عن الوحشية والصمود" ـ تبقى شهادة مُصوَّرة، تعكس شيئاً كثيراً من حكاية الرجل مع الزمن والجغرافيا والانقلابات المختلفة، التي شهدها العالم حينها، والتي شهدها الزعيم الثوريّ نفسه، في حياته.
لكن، في مقابل هذا، يظهر فيدل كاسترو في أكثر من فيلم سينمائي، وثائقي وروائي، يروي بعض السيرتين الحياتية والثورية لتشي غيفارا، الـ "إيقونة" الأولى للثورة الأممية، في خمسينيات القرن العشرين وستينياته، تحديداً. ولعلّ أحد أجمل المشاهد السينمائية، التي تعكس الرابطة الإنسانية الجامِعَة بينهما، قبل افتراقهما إثر نجاح الثورة، يبقى بدايات "تشي"، الذي حقّقه الأميركي ستيفن سودربيرغ عام 2008، في جزأين اثنين.
سودربيرغ يوازن، إلى حدّ ما، بين سيرتي الشخصيتين، مع أن صنيعه السينمائي برمّته يرتكز على تشي وحكايته. في الفيلم، يظهر كاسترو في محطات كثيرة، كشخصية قوية ومُشارِكة فعلياً في النضال الثوري، لكن في ظلّ كاريزما تشي، الأقوى والأفعل والأكثر تأثيراً في الرفاق المناضلين، كما في العالم السياسي والاقتصادي الدولي، وإنْ يَكنّ هذا العالم شيئاً من العداء له. وإذا أبدى البورتوريكيّ بينيتشيو دل تورو (1967) براعةً أدائية مُبهرة، في تقديمه تشي، فإن المكسيكي دميان بيتشير ناجيرا (1963) لم يكن أقلّ براعةً منه في تأدية شخصية كاسترو، ما جعل حضورهما ـ كممثلين وكشخصيتين تتنازعان، وإنْ بشكل غير مباشر، سلطةً أو مكانةً أقوى وأكبر ـ إضافةً نوعية جميلة ومهمّة وأساسية، على فيلمٍ يتابع مسار تشي، ومصائره الكثيرة.
أخيراً، لا بُدّ من الإشارة إلى الوثائقي "سيكو" (2007) لمايكل مور، الذي يدور حول النظام الصحي البائس في الولايات المتحدّة الأميركية. فرغم أن مور ينتقد، بشدّة وعنف كلاميّ وبصريّ واضح، السياسة الصحية المسيئة لـ 45 مليون أميركي، إلاّ أنه يتّخذ من دولٍ عديدة أمثلةً على التفوّق الإنساني والعلميّ والقانوني والاجتماعي للسياسات الصحية فيها، ومن بينها كوبا، في ظلّ الحكم المتشدّد لفيدل كاسترو.
هذه نماذج قليلة، من بين أفلام سينمائية وتحقيقات تلفزيونية مختلفة، تدور كلّها حول مناضلٍ، يحتلّ مكانةً أساسية في وعي كثيرين.