كولومبيا بعدسة فنلندية: كاميرا الجزئيات الدقيقة

11 مارس 2020
أتبقى "كولومبيا لنا"؟ (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
على خطى المخرجين الكبار، يُحقِّق الفنلنديان جيني كيفيستو وجوسي راستاس مُنجزاً وثائقياً مهمّاً، يستعيد تاريخاً طويلاً من الصراع والحروب الأهلية في كولومبيا. في بحثهما عن جذور الصراع وتشعّباته، ينطلقان من لحظة الإعلان عن اتفاق سلام مُبرم بين الحكومة و"فارك"، أكثر الحركات المسلّحة شعبية، عام 2017. اللحظة الدراماتيكية تلك تُحيل إلى زمن آنيّ، لكن الفعل السينمائي لا يتوقّف عندها، من دون الخوض في ماضي الصراع ومحفّزاته. يقترح المخرجان رجوعاً إلى الوراء، إلى تلك الساعة الشاهدة على وصول الغزاة الإسبان إلى أميركا، وبداية زرعهم ذريّتهم في أرحام نسائها، ما يؤدّي لاحقاً إلى اختلاط الأجناس وتغيّر الألوان.

على هذا المرتكز التاريخي، يستند ثوار "فارك" كثيراً في تحليل أسباب حراكهم، ويبرّرون به حملهم السلاح ضد حكّام البلد منذ أكثر من نصف قرن. أما الوثائقي، فرؤيته للتاريخ مختلفة. يستعين به من دون الغرق فيه. يبحث عن رموزه في الواقع، ليستقصي عبرها مآلات بلد يمرّ في ظرف حرج.

الرؤيتان، السياسية والجمالية (السينمائية)، متشابكتان، يعبّر عنهما اختلاف عنوان الفيلم، الفائز بجائزة أفضل وثائقي من دول الشمال، في الدورة الـ43 (24 يناير/ كانون الثاني ـ 3 فبراير/ شباط 2020) لـ"مهرجان غوتنبرغ السينمائي". فالعنوان الإنكليزي يُترجم عربياً إلى "كولومبيا بين يديّ"، وعنوان النسخة المترجمة إلى الإسبانية هو: "كولومبيا كانت لنا" (2020، إنتاج مشترك بين فنلندا والدنمارك وفرنسا والنرويج، 91 دقيقة).

طيلة بقائهما في كولومبيا أكثر من عامين، ومع كثرة تنقّلاتهما بين جغرافيات وتضاريس ومدن وشخصيات، لم يتخلّ المخرجان عن شروط نقل هذا كلّه بجماليات تصوير وحساسياته. تصوير يستنطق كلّ ما يقع في مدى رؤية عدساته. فالكاميرا (تصوير المخرج جوسي راستاس) لصيقة بالجزئيات الدقيقة، وكلّ مشهد تُشَبّع معانيه بالتفاصيل المحيطة به. العناية بنقل حدّة تقاسيم الوجوه وتعابيرها، والتقاط عدساتها (عن قرب) حركة الطبيعة مذهلة الجمال، وسكونها يجعل من كلّ مشهدٍ حيّزاً لتفاعل المشاعر وتدفّق التعابير. الغابات والحيوانات البرية في البراري تُغنِي وجودها، وتفاصيل مشهد مغادرة المقاتلين لوحداتهم، بعد موافقتهم على تسليم أسلحتهم، وحسرتهم على أماكن يألفونها لعيشهم فيها أعواماً من شبابهم، هذه كلّها تنقلها كلمات وعبارات قصيرة موجزة.
يرصد الوثائقي الوداع الحذر وانفعالات المحاربين وخوفهم من غدر السلطة. منه، يسير في دروب السياسة والتاريخ. سعة التجوال وازدحامه يمنحان النص بُعداً ملحمياً، ولغة سرد النص زاخرة دائماً بترفٍ جمالي.

التجوال الدائم في المكان المضطرب يوصل المخرجين الفنلنديين إلى شخصيتين كولومبيتين تتناقض إحداهما مع الأخرى، إذْ يعكس تكوين كلّ واحدة منهما جانباً من الصراع، الذي يشهده بلدهما اليوم، وهما جزء حيوي منه. غالبية السيناريو مكتوبة من وحيهما (المخرجة جيني كيفيستو مع زميلها جوسي راستاس)، والبقيّة تترك لمجريات الأحداث، التي تعقب الاتفاق، مهمّة إكماله.

المقاتل مانويل جاكوب لافت الحضور، لما فيه من جاذبية وإيمان صادق بقناعاته وأفكاره. يمضي 12 عاماً من عمره في الجبال مُقاتلاً جسوراً. بعد تركه السلاح، يتولّى مسؤولية الداعية السياسية في التنظيم. يثقّف رفاقه بالخطوة الصعبة المقبلة: ترك السلاح وخوض العمل السياسي السلمي. نقيضه رجل ثري، سليل عائلة حاكمة "بيضاء"، لا يخفي ازدراءه فقراء كولومبيا، ويعتبر أنّ لأجداده الإسبان فضل تحضّر البلد والقارة اللاتينية. أفكاره المتعالية وعيشه المترف يعزّزان الجانب التاريخي الذي يُثقّف به المقاتل الشاب رفاقَه. هؤلاء هم الحكّام الأزليون للبلد. لن يتركوا السلطة، والرئيس الحالي، خوان مانويل سانتوس، واحدٌ منهم. يرسم المقاتل شجرة عائلة حكام كولومبيا منذ وصول الإسبان إليها. فروعها تصل إلى الرئيس الممنوح جائزة نوبل للسلام، لسعيه إلى عقد الاتفاق مع قادة حركته. لو يُهمل الوثائقي بقية بحثه في زوايا الصراع السياسي وخفاياه، لبدا وجود الرجل الثري وأفكاره كافياً للتوافق مع "النظرية التاريخية".
هناك أشياء لا بدّ من إضافتها إلى المشهد العام، لأنها جزء منه، كتجارة المخدرات وزراعة الكوكا. في البرلمان، يقول معارضو الاتفاق إنّه (الاتفاق) يمثّل تنازلاً لتجار المخدرات ورجال العصابات. المزارعون في الجنوب لا علاقة لهم بالحركة المسلّحة، ويستغربون اتّهام "البرلمانيين" للمقاتلين بفعل لا يمارسونه.

التّهم والأكاذيب السياسية والمخاوف من غدر السلطة تشكّل المشهد السياسي الحذر، في مرحلة ما بعد الاتفاق. تظهر فيه بوضوح نقاط تموضع كلّ طرف، فيما الخطابات السياسية تحاول التستر على وجودها، وعلى تجاهل تاريخ طويل من العداء. المشهد كما هو يُصعِّب مهمّة مانويل ويؤرقه، فيما يعزّز من قوة الرجل الأرستقراطي. في ثنايا الحراك السياسي، وتحويل حركة "فارك" إلى حزب سياسي، تبرز المعارضة الشعبية. معارضة "عدمية" ناشئة من يأسها وكراهيتها للسياسة والسياسيين. 

لا يترك الوثائقي زاوية لا يدخلها، ومحطة لا يتوقّف عندها، إذا كانت لها صلة بما هو آتٍ من أجله. يتوقف في مسيرته عند كلّ منعطف يعزّز الفعل السينمائي، المصحوب دائماً بالغناء والأناشيد، وبموسيقى يكتبها له بوفل كريستيان. يربح السياسيون الأغنياء الانتخابات، فيرفضون تقاسم السلطة مع خصومهم الفقراء. نتائج الانتخابات تُعزّز تلك الحكمة الشعبية، وتترك المقاتلين، الذين يُصبحون رجال سياسة، في حيرة.

لماذا يصوّت الناس للذين يُجرّبونهم، وفي كلّ مرة يكذبون عليهم؟ سؤال ملتاع يكفي لزعزعة المُسلّمات التاريخية، ويُجبر المؤمنين بها على إعادة النظر في قناعاتهم ومواقفهم. عند تلك النقطة الحرجة، ينعطف مسار الوثائقي إلى الجنوب، حيث تشرع الحكومة بالسيطرة على مزارع الكوكا وقتل الفلاحين. لا يستنكف الوثائقي، المُصوّر بكاميرات عالية الجودة، عن إضافة لقطات مأخوذة بالهاتف المحمول لمَشَاهد توثّق قتل الجنود للمزارعين من دون رحمة.
الحكومة الكولومبية لم تحلّ مشاكل المزارعين كما وعدت، فتترك المدينة لمحاربين ينضمون إلى حراك مسلح جديد، ربما يعيد فصولاً من الصراع الدموي في بلد، يتأمّل أهله خيراً بحكومة من "السلالة البيضاء"، ولو للحظة.

فهل يُعَبّر فعل "كان" في العنوان (كولومبيا كانت لنا) عن ماضٍ زائل، يُستبْعَد تكراره ثانية؟ يتردّد السؤال في ثنايا متنِ مُنجزٍ مهمّ، مكتوب بلغة سينمائية بليغة. صناعه يأتون من بلد بعيد إلى كولومبيا عند سماعهم نبأ التوصّل إلى اتفاق سلام بين المتحاربين، ومن ثنايا ما يُسجّلونه تطفح شكوكٌ بأنّ البلد الذي كان يوماً موطناً للكولومبيين، ربما لن يكون له وجود.
المساهمون