كوكو واوا في نيابة أمن الدولة (3/4)

15 يوليو 2020
+ الخط -

أخذ هشام سرايا المحامي العام لنيابات أمن الدولة العليا ينهال بالتحيات والسلامات على "أستاذ الأساتيذ ونقيب النقباء"، ويشكر الظروف التي جعلته يسمع صوته بعد طول غياب، فهممت بأن أخرّ على بلاط المحل ساجداً وشاكراً لله الذي أنعم علي بمحامٍ رفيع المقام يقف إلى جنبي في وقت الشدة، وحين رأيت الجزمجي يعود إلى مقعده حاملاً كوباية الشاي في يده، أبعدت السماعة عن أذني، وحذرته بصوت هامس من العودة للدق على الكعب، أو إحداث ضجة لن تنجح يدي الموضوعة على السماعة في منعها من اختراق المكالمة التي قلت له إنها "مع ناس مهمين جداً"، فهز الرجل رأسه وبدأ في شفط شايه في استمتاع.

حين عدت للتركيز مع المكالمة، كان هشام بيه يقول للأستاذ أحمد الخواجة ضاحكاً إنه فكر للحظات أن يقول له إن القضية خطيرة وتتطلب حضوره إلى النيابة لحضور التحقيق، فقط لكي يسعد برؤيته ويأنس بحضوره، لكنه استعيب ذلك لأن الموضوع بأمانة لا يستحق أن يخبط من أجله مشواراً، وحين علا صوت خرفشة أوراق كان يقلب فيها، أضاف أنه يتمنى تغيير القانون الذي يجعل قضايا تافهة مثل هذه تحال إلى نيابة أمن الدولة العليا، لمجرد أن الشاكي فيها يشغل منصباً رسمياً في الدولة، وأنا لم أدر هل أزغرد لأنه وصف قضيتي بأنها تافهة، أم أخجل لأن ذلك لم يكن ما تصورته عن أول قضية رأي توضع في سجلي الذي لا بد أن يكون حافلاً بالكفاح من أجل حرية الرأي والتعبير، أم أقلق لأن موظفاً رسمياً يختصمني أمام النيابة؟ 
"أهوه سيادتك.. اللي مقدم البلاغ عميد كلية الفنون الجميلة في جامعة حلوان.. بيتهم الصحفي المذكور بالسب والقذف عشان كتب عنه مقالة بعنوان (كوكو واوا يا سيادة العميد)".

حين عدت للتركيز مع المكالمة، كان هشام بيه يقول للأستاذ أحمد الخواجة ضاحكاً إنه فكر للحظات أن يقول له إن القضية خطيرة وتتطلب حضوره إلى النيابة لحضور التحقيق

 


صمت الأستاذ أحمد الخواجة للحظات ثم أطلق ضحكة عالية شاركه فيها هشام بيه، قبل أن يسأل هشام بيه ما إذا كان متأكداً أن البلاغ مقدم في مجلة ميكي وليس في صحيفة (الدستور)، فيشكو له هشام بيه مجدداً من القانون المعيب الذي يجعل وقت نيابة أمن الدولة العليا المنشغل بقضايا إرهاب وقلب نظام حكم وجاسوسية، يضيع في قضية تافهة مثل هذه، ثم يستدرك فيقول إنه مع ذلك يشكر عميد الكلية الشاكي لأنه أتاح له فرصة سماع صوت أستاذه، فيعده الأستاذ الخواجة بأنه سيمر عليه قريباً جداً ليشرب معه فنجان قهوة، ويشكره على وقته الثمين الذي لن يضيع المزيد منه.

في لمسة أبوية لا أنساها له، قرر الأستاذ الخواجة قبل إغلاق المكالمة، أن يقول لهشام بيه: "أظن مش محتاج أوصيك على الزميل الصحفي.. ده في مقام ابني"، ليقول له هشام بيه إنه ليس محتاجاً ليوصيه، لأن الموضوع بسيط جداً، ويضيف ضاحكاً أنه سيوفر توصية أستاذه لقضية خطيرة يتهم فيها أحد محرري الصحيفة، ثم يتبادل الاثنان التحيات الرقيقة والتمنيات الطيبة، ويقفل هشام بيه السماعة، لأبقى أنا مخروساً على الخط، محاولاً تقرير الخطوة التالية، هل سأقفل الخط أنا أيضاً وأعاود الاتصال بأحمد بيه الذي قال إنه سيرجع لي دون أن يشرح لي كيف وأين؟

"بقى كنت عايزني أروح معاك لآخر الدنيا وأحضر معاك التحقيق عشان كوكو واوا؟"

بهذه العبارة القصيرة المكيرة، قطع صوت أحمد بيه الصمت القصير الذي أعقب خروج هشام بيه من المكالمة، ومع أنه أعقبها بضحكة عالية، إلا أنني لم أجد ما أرد به وأنا أقف في نص هدومي، بعد أن تحولت أول قضية نشر أمثل بسببها أمام النيابة من ورطة إلى مسخرة، ولم أكن لألوم الرجل الكبير لو استغل الفرصة لمزيد من التريقة، لكن كرم أخلاقه جعله يكتفي بسؤاله الساخر المنطقي، وقبل أن أستفيض في الاعتذار والشكر، طمأنني أن الموضوع سيمر بسلام، وطلب مني أن أتصل بمكتبه بعد مغادرة سراي النيابة لأترك خبراً أنني خرجت بالسلامة، لكي يتصل بهشام بيه شاكراً له على لطفه معي، وقبل أن يغلق المكالمة وعدني بأن يحضر معي التحقيق التالي، مضيفاً "بس لو كان في قضية تستاهل".

بالذمة، ألم تكن ستلومه لو لم يقل ذلك؟

وضعت السماعة ووقفت أوبخ نفسي لأنني رأيتها على وشك الانزلاق نحو الإحباط بسبب تفاهة القضية محل التحقيق، وأذكرها بأن في الوقت متسع لذلك الإحباط، خصوصاً أن من ينتظرون عودتي من التحقيق بفارغ الصبر لن يرحموني من إفيهات وتريقات يهون إلى جوارها ما سمعته من أحمد بيه وهشام بيه، ولذلك ليس علي الآن إلا أن أسارع فيما تبقى لدي من وقت قبل دخول مبنى النيابة، لأعصر ذاكرتي لكي تستعيد تفاصيل "الكَتوبة" التي أغضبت عميد كلية الفنون الجميلة وجاءت بي إلى النيابة، والتي لم يكن ينطبق عليها علمياً وصف "المقالة" الذي أطلقه عليها المحامي العام، والذي لم يكن ملف القضية سيصل إليه أصلاً لو لم يكن أحمد الخواجة طرفاً في الموضوع، فمع أنني قمت بكتابتها فعلاً، إلا أنها لم تكن مقال رأي بالمعنى المعروف، وهي في نفس الوقت ليست خبراً ولا تحقيقاً صحفياً، هي ببساطة شكوى كان يمكن أن تمر بهدوء لو لم أختر لها ذلك العنوان المأخوذ من إبداعات الفنان إبراهيم نصر.

كنت قد توليت بعد انطلاق صحيفة (الدستور) مسئولية تحرير ركن بريد القراء الذي اختار له الأستاذ إبراهيم عيسى عنوان (صوت عالٍ وصدى أعلى)، طالباً مني أن أصنع فيه حالة ساخرة كالتي كنت أصنعها في صياغتي لعناوين ومتن بعض الموضوعات الثقيلة التي كان يطلب مني تخفيفها، ففتحت على الرابع محققاً نجاحاً ساحقاً أدى إلى تحويل الركن الذي كان يحتل ثلث صفحة إلى صفحة كاملة في أقل من عام، وعلى عكس ما كانت تفعله الكثير من أبواب بريد القراء في الصحف والمجلات، لم أكن أنشر الشكاوى التي ترد إلى القراء بشكل تقليدي، بل كنت أقوم بإعادة صياغتها أو بـ "تصحيفها" على حد تعبير الأستاذ إبراهيم عيسى، لتصبح أشبه بالتقرير الخبري الموجز، مضيفاً إليها سخرية لاذعة من المسئولين الذين تسببوا في المظلمة التي يشتكي منها القارئ، فتتحول الشكوى من واقعة فردية تخص صاحبها إلى مادة صحفية يمكن أن تمس عدداً أكبر من القراء.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31

بلال فضل

كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.

لذلك، حين أرسل إلي بعض طلبة كلية الفنون الجميلة في جامعة حلوان يشتكون من أن عميد الكلية ـ مع أن ذاكرتي خانتني مع طوب الأرض، أذكر أن اسمه كان الدكتور عاصم إمبابي ـ قام بمنع فريق المسرح الذي أنشأوه في الكلية، وكانت تلك موضة مستشرية في الجامعات وقتها مع توغل سيطرة تيارات الشعارات الإسلامية، لكن منع فريق مسرح في كلية للفنون الجميلة كان أنكى وأضلّ، لذلك فقد اهتممت بالشكوى وقمت بصياغتها طالباً من العميد أن يتراجع عن قراره، ولأن مساحة الباب كانت لا تزال محدودة، وكان ينبغي أن أختار لكل رسالة تنشر عنواناً قصيراً لا يتجاوز الأربع أو الخمس كلمات، فقد قررت أن أضع عنواناً يثير انتباه القارئ نحو المادة، ولم أجد أفضل من إفيه (كوكو واوا) التي كانت وقتها من أشهر "التريندات" في مصر، قبل أن ينطلق عصر "التريند" بشكل رسمي، وكان من المألوف أن تسمعها تتردد في الشوارع والبلكونات من كثير من الذين أعجبتهم منذ أن سمعوها تتردد على لسان الممثل إبراهيم نصر في برنامج (الكاميرا الخفية)، مستفزاً بها ضيوف مقالبه قبل أن يكشف لهم أنهم كانوا جزءاً من مقلب ويسألهم: "تحب نذيع؟" ليأخذ موافقتهم على إذاعة المقلب، أو هكذا كنا نتصور ببراءة، قبل أن تلف الأيام ونعرف أن تلك المقالب كانت مشاهد تمثيلية مجهزة مسبقاً.

حين رفض عميد الكلية أن يتراجع عن قراره الغريب، قرر طلبة فريق المسرح أن يلجأوا للسلاح الوحيد المتاح لديهم: التجريس، فبدأوا في تصوير ما كتبته وإرساله إليه في البريد، وكانت تلك أول مرة أسمع فيها عن هذه الوسيلة التي عرفت فيما بعد من قراء كثيرين أنهم يقومون بها حين أكتب عن رؤسائهم أو مدرائهم المتغطرسين أو الفاسدين، وحين استمر عناد العميد، قرر الطلبة التصعيد فأخذوا يكمنون للعميد في أماكن مختلفة من مبنى الكلية، منتظرين قدومه إليها، ثم ينادونه حين يسير في أروقة الكلية هاتفين بعنوان ما نشرته: "كوكو واوا يا سيادة العميد"، فيلتفت نحو مصدر الصوت غاضباً فلا يجد أحداً، أو يجد طلبة مشغولين بحال سبيلهم، فيسدد لهم نظرات شزرة، وحين يستدير ليكمل سيره يعاوده النداء من جديد: "كوكو واوا يا سيادة العميد"، وحين أصبحت التفاتاته نحو مصدر الصوت أسرع، تم تقصير النداء ليصبح "كوكو واوا" فقط، ثم أصبح "كوكو" لوحدها حرصاً على عدم الوقوع في مرمى بصره، ليتحول تجول العميد في أروقة كليته إلى حفلة تجريس تواطأ فيها الكثيرون، طلبة وموظفين وأساتذة.

ولأن الرجل لم يكن يستطيع توقيع عقوبات جماعية على طلبة الكلية، فقد قرر أن يفش غله في العبد لله، وقام بتقديم بلاغ سب وقذف، فذهب البلاغ إلى نيابة أمن الدولة العليا التي لم يتغير منذ أيام اللورد كرومر كونها المختصة في قضايا سب وقذف الموظفين العموميين، والتي يلزمها القانون أن تحقق مع أي صحفي أو كاتب يتم تقديم البلاغ فيه، دون أن تنظر في جدية البلاغ أولاً، ولو كانت قد فعلت، لما اضطررت إلى إيقاظ عصام اسماعيل فهمي من سابع نومة، ولا إلى إقلاق راحة نقيب نقباء المحامين، ولا إلى تعطيل المحامي العام لنيابات أمن الدولة عن النظر في قضايا الإرهاب والأمن القومي، وهو ما قررت أن أقوم بتسجيله خلال التحقيق، لعلي أكون سبباً في تغيير هذا الوضع الغريب الذي يجرجر الكتاب على ملا وجوههم في قضايا لا أقول تافهة، احتراماً لنفسي، بل فلنقل إنه يوجد ما هو أهم منها.

...

نختم غداً بإذن الله..

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.