بلدٌ كرهتها، لذا أتلذذ بالكتابة عنها، فالكتابة والرحلة عدوّان! لأن الكتابة تتطلب العزلة، بينما الرحلة تتطلب الآخرين، وفي كوبا كرهت "الآخرين" فحصلت على عزلة كافية للكتابة.
تمكّنت من خلال علاقاتي الشخصية من ترتيب سكن لدى عائلة كوبية، على أن نتفق على السعر بمجرد وصولي، إذ كان هناك غرفتان في المنزل وكل غرفة بسعر مختلف. لحظة وصولي، بدت لي العائلة جميلة، الأب من أصول إسبانية، سمين أبيض الشعر وناعمه، له حنجرة غليظة، بينما الأم من أصول رومانية، قصيرة، سوداء العينين، شقراء قصيرة الشعر، ولديهما ابنتان، إحداهن متزوجة، لم أقابلها، والأخرى تقيم معهما في المنزل نفسه، وتشبه أمها وأباها في آن واحد.
عرضا عليّ غرفتي نوم لا فرق بينهما، من وجهة نظري، لكن سعرهما مختلف، الأولى كانت بـ 100 دولار في الأسبوع، والثانية بـ 120 دولاراً في الأسبوع. كلتاهما تشمل الوجبات الثلاث وغسل الملابس. سألت عن الفرق بينهما؟ فقالت الأم:
- ألم تلاحظ الفرق بنفسك؟
- لا لم ألحظ فرقاً.
هنا تدخل الأب بتعالٍ مضحك، وهو يقول لزوجته:
- يبدو أن هذا الشاب يأتي من بلد متخلف تكنولوجياً، وقد لا يعرفون مثل هذه الاختراعات.
شعرت بأن هناك تكنولوجيا متطورة لم ألحظها، فسألت على استحياء:
- وما هو الفرق بين الغرفتين؟
فأشارا إلى مروحة صغيرة مغبرة في طرف الغرفة، قائلين:
- الرطوبة في هافانا عالية، لذا نحن نستخدم "المراوح" في الغرفة، ولا أدري إذا كنتم تستخدمون مثلها في بلادكم، لكن إذا حجزت الغرفة بالمروحة، سأعلمك كيف تستخدمها!
قررت أن أدلل نفسي وأستمتع بتكنولوجيا المروحة.
أتلومونني على كره هذا البلد!
***
السفر في حقيقته آلة زمن، تنتقل فيه من زمن لآخر قبل أن تنتقل فيه من جغرافيا إلى أخرى. لذا حينما أقرأ وجه أي مدينة للمرة الأولى، فإنني أحاول أن أحدد في أي زمن أعيش. وفي هافانا سيكون شعورك حتماً أنك تعيش في الستينيات! لأن الروزنامة في هذه الجزيرة قد تجمدت منذ الستينيات. كأن البلد أعجبتها حقبة الستينيات، فتوقفت عن النمو، رافضةً الانتقال إلى الحقبة التي تليها. كل شيء هنا يوحي بالستينيات: السيارات، البيوت، الأكل، الوجوه، قصات الشعور، التكنولوجيا، ورائحة البشر. والسر يكمن في الحصار الاقتصادي الذي فرضته أميركا على كوبا منذ الستينيات، ودخول البلد في دوامة اشتراكية تشجع بدعة الاكتفاء الذاتي.
حينما تنظر إلى كوبا في الخريطة من بعيد، ستبدو لك كـ"نمش" متناثر على وجه المحيط، وإذا أرجعت البصر كرتين، فستبدو لك كبندقية قديمة مغروسة في خاصرة أميركا. وهي كذلك فعلاً، فمنذ دخولها في نزاع مع أميركا اتخذت هذه الدولة قرارين كبيرين تحدّت فيهما أميركا بشكل صارخ، الأول حينما منعت تصدير السكر إلى جارتها التي كانت تعتمد على السكر الكوبي، مما أدى إلى نقص شديد في السكر في السوق الأميركي، الثاني حينما سمحت للاتحاد السوفييتي بأن يضع رؤوساً نووية في الجزيرة، وتوجيهها إلى أميركا! ولذلك عاش الشعب الكوبي في حصار اقتصادي أميركي أكثر من خمسين سنة!
***
حينما تصل إلى هنا يجب أن تكون مجهزاً بكل شيء تحبه، لأنك لا تملك خيارات عدة، فهنا يوجد من كل منتج صنف واحد فقط. فيوجد نوع واحد من الكاتشب والكوكا والعصير والرز والدواء، وكله من إنتاج مصانع الدولة، ولكم أن تتخيلوا رداءة المنتجات.
كما أن المواطن لا يسمح له إلا بمصدر دخل واحد، يكون من الدولة أيضاً. لذلك حرص صاحب المنزل على تذكيري دائماً بأن أقول للناس والجيران بأنني في ضيافته، وأنني صديق لأخيه المقيم في الصين، وأنني لا أدفع مقابلاً للسكن لديه، وإلا تعرض للسجن بتهمة الحصول على تمويل من غير الدولة!
*حساب الكاتب على أنستغرام @Q8BackPacker
*الكويت