بعدما أسقطت الدول العربية في اجتماعها الأخير المشروع الفلسطيني الرافض للاتفاق الثلاثي الإماراتي الإسرائيلي الأميركي، وخلا بيانها الختامي من أي إشارة للاتفاق التطبيعي، أو إدانة الإمارات لخروجها عن المبادرة العربية للسلام، يدور في أروقة القيادة الفلسطينية حديث جدي عن اتخاذ موقف تجاه جامعة الدول العربية، بالانسحاب أو تعليق عضوية فلسطين فيها.
وقال مسؤول فلسطيني في منظمة التحرير، لـ"العربي الجديد"، إن القيادة الفلسطينية تدرس خيارات إما الاستقالة من الدورة الحالية لجامعة الدول العربية، حتى لا يترتب على فلسطين أي التزام في الاجتماعات المقبلة بسبب ما نتج عن الاجتماع الأخير، فيما هناك رأي يذهب إلى تعليق عضوية فلسطين.
وأضاف المسؤول، الذي اشترط عدم ذكر اسمه، "يوجد حديث جدي لدى قيادات في الصف الأول ترى أن الرد يجب أن يكون في تعليق عضويتنا في جامعة الدول العربية، لأن الأخيرة قامت بكشف الغطاء عنا دولياً، وأعطت ضوءاً أخضر لمزيد من الدول لتقوم باتفاقيات تطبيع مع إسرائيل. لذلك، لماذا لا نكشف الغطاء عنها أمام شعوبها التي لا تزال تؤمن بقضية فلسطين؟".
وتسود حالة من الغضب والخذلان المستويات السياسية الفلسطينية بعد إسقاط جامعة الدول العربية لمشروع قرار فلسطيني، قام الفلسطينيون بتخفيفه أكثر من مرة، ومع ذلك لم تسمح الإمارات ومصر والسعودية بتمريره، رغم موافقة الفلسطينيين على حذف "الرفض المباشر للاتفاق الثلاثي" وتخفيف صيغته. لكن تمسك الفلسطينيين بـ"إدانة من يخرج عن المبادرة العربية" أدى إلى إسقاط المشروع بالكامل، لأن اللوبي الذي صنعته الإمارات ومصر والسعودية، وضم دولاً عربية أخرى، كان بالمرصاد. مع العلم أن وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش هو من قاد الحراك الإماراتي.
قام الفلسطينيون بتخفيف مشروع قرارهم أكثر من مرة
كواليس الاجتماع العادي لجامعة الدول العربية رقم 154 يوم الأربعاء الماضي، والذي انعقد عبر تقنية الفيديو، تُدلل على حجم الخذلان الذي يشعر الفلسطينيون به. فمنذ إعلان الاتفاق الثلاثي الإماراتي الإسرائيلي الأميركي كانت فلسطين تطلب اجتماعاً عاجلاً لجامعة الدول العربية. في البداية لم يكن الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط يرد على مكالمات أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير صائب عريقات، حسب تصريحات الأخير في 16 أغسطس/آب الماضي.
استغرق الفلسطينيون بعض الوقت قبل أن يأتيهم الجواب واضحاً من الأمانة العامة لجامعة الدول العربية بأنه "لن يكون هناك أي دعوة لاجتماع طارئ، وعليكم انتظار الدورة العادية لاجتماع الجامعة الذي سيكون في التاسع من سبتمبر/أيلول" الحالي، حيث كانت الإمارات والبحرين، ومن خلفهما السعودية ومصر، يرفضون الطلب الفلسطيني.
دولتان فقط دعمتا الطلب الفلسطيني بعقد اجتماع طارئ، هما اليمن والصومال، لكنهما فشلتا أمام اللوبي القوي في الجامعة، والذي تقوده دول خليجية، تحديداً السعودية والإمارات والبحرين وسلطنة عُمان، والتي ضمت إليها في موقفها مصر والأردن وموريتانيا.
الفلسطينيون أدركوا أن المحور الإماراتي السعودي في الجامعة بات قوياً، وأن المال هو المتحكم في القرار، فمن يدفع موازنة جامعة الدول العربية هو الذي يتحكم بقراراتها. ولعل اللافتة المعلقة على مدخل قاعة الاجتماعات الرئيسية لجامعة الدول العربية، حيث يلتقي الرؤساء ووزراء الخارجية، تختصر واقع الجامعة العربية كله، حيث يقرأ الداخل إليها جملة على اللافتة تفيد بأنه "تم تجديد هذه القاعة بتمويل من دولة الإمارات العربية".
بعد أن تلقى الفلسطينيون الجواب الرافض من الجامعة، طلبوا بياناً ترفض فيه الجامعة وتدين الاتفاق الثلاثي، لكنهم حصلوا على بيان مائع من أبو الغيط بتاريخ 22 أغسطس الماضي، فيه الكثير من الكليشيهات (العموميات) من دون أي رفض أو إدانة للاتفاق الثلاثي، لا من قريب ولا من بعيد. اليومان اللذان سبقا اجتماع وزراء الخارجية، أي في السابع والثامن من سبتمبر الماضي، كان التوتر والمعارك الصامتة يسيطران على أجواء جامعة الدول العربية، حيث يسبق جلسة وزراء الخارجية اجتماع على مستوى المندوبين والأمانة العامة للجامعة، إذ رفضت الأخيرة تعميم مشروع القرار الفلسطيني الذي يرفض الاتفاق الثلاثي ويدين الخروج عن المبادرة العربية على المندوبين. وطالبت الأمانة العامة الفلسطينيين بتعديله، وهذا ما تم، حيث تم تعديله وتخفيفه مرتين، وتم استبدال "رفض الاتفاق الثلاثي" إلى "رفض كل ما ينتقص من الحقوق الفلسطينية في الاتفاق الثلاثي". لكن الفلسطينيين ظلوا متمسكين بالإدانة، وتحديداً الرئيس محمود عباس الذي كتب بيده سطر "إدانة أي دولة عربية تخرج عن المبادرة العربية". وهنا جاء الرفض من اللوبي الإماراتي، وسقط مشروع القرار الفلسطيني بسبب تمسك الفلسطينيين بالإدانة.
وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي، الذي ترأس الاجتماع، كان واضحاً جداً عندما قال في إحدى مداخلاته في الاجتماع: "لم نعد نصدق اللغة التي يتم التوافق عليها، ومن بينها التوافق على المبادرة العربية. ونحن أمام منعطف، إما أن تكون المبادرة العربية مُلزمة أو فليكن لدينا الجرأة في جامعة الدول العربية ونلغي المبادرة، وبهذا لا يوجد عتب على أي دولة". وأضاف المالكي، في مداخلته، "نحن نتمسك بمشروع القرار بجملة تدين من يخرج عن المبادرة العربية، وسطر الإدانة لن يوقف الإمارات عن توقيع الاتفاق بشكل رسمي في الخامس عشر من الشهر الحالي في الولايات المتحدة الأميركية مع إسرائيل، لكنها ستمنع دولاً عربية أخرى من الهرولة وراء الإمارات".
الحياد خلال اجتماع الجامعة العربية خدم الإمارات فقط
وقال المالكي، في كلمته الرسمية، "إذا أردتم أن تذهبوا باتجاه التطبيع مع الاحتلال، وأن تتعاملوا مع مبادرة السلام العربية بشكل عكسي، كما يريد (رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين) نتنياهو، أي التطبيع قبل إنهاء الاحتلال، إذن من أجل أن تتحرروا من ضوابط مبادرة السلام العربية، لنأخذ قراراً شجاعاً بإلغاء مبادرة السلام العربية وإنهاء، لكي تصبح كل دولة فينا (حرة) للتصرف كما تريد، وللذهاب إلى التطبيع إن هي أرادت. ولكن ما دام هناك شيء اسمه مبادرة السلام العربية، التي أقرت من القمم العربية، فهي ملزمة لنا جميعاً، ولا نستطيع الخروج عنها على الإطلاق. ونحن نعتبر أن التطبيع قبل إنهاء الاحتلال هو مخالفة جسيمة لهذه القرارات، وتحديداً لمبادرة السلام العربية". لكن موقف المالكي تمت مواجهته برفض مُعلن من الإمارات والسعودية ومصر والأردن والمغرب، مفاده بأنه "لا نريد إدانة أو رفض للاتفاق الثلاثي".
الأسوأ من الرفض المعلن هو محاولة بعض وزراء الخارجية نحت مصطلحات للقفز والالتفاف على جوهر المبادرة العربية، مثل ما جاء في خطاب وزير خارجية سلطنة عُمان بدر بن حمد بن حمود البورسعيدي، المنشورة على وكالة الأنباء الرسمية العمانية في التاسع من الشهر الحالي، حين وصف المبادرة العربية بـ"الاسترشادية". وقال "إننا في الوقت الذي نحترم فيه حق الدول السيادي في اتخاذ ما تراه مناسباً لتحقيق مصالحها فإننا نسترشد بمبادرة السلام العربية، ونتمسك بها إطاراً مرجعياً لتحقيق السلام المنشود، القائم على أساس الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة".
ومن المعروف أن جامعة الدول العربية تذخر أدبياتها بنماذج استرشادية غير مُلزمة، مثل قوانين الشركات أو مكافحة الفساد وغيرها، والتي من الممكن أن تستفيد منها الدول العربية أو لا. أما وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي فقال في مداخلة له: "خلينا نعتبر التمسك بمبادرة السلام منع للخروج عنها دون إدانة".
وتقرّ القيادة الفلسطينية بأن هناك دولاً عربية تخلت عن فلسطين بالصمت، أو محاولة افتعال الحياد، لأن الحياد في ذلك اليوم، أي يوم اجتماع جامعة الدول العربية، كان يخدم الإمارات فقط، مثل ما فعلت دول مثل العراق، والجزائر، وتونس، والسودان، وليبيا. أما لبنان فتجاوز الحياد إلى موقف مائع، عندما قال الأمين العام لوزارة الخارجية والمغتربين السفير هاني شميطلي: "المبادرة العربية ملزمة، لكن دون أي إدانة".
ويرى مسؤولون فلسطينيون أن فلسطين تعرضت لضغط يرقى لدرجة الابتزاز من اللوبي الإماراتي، وهو مجموعة مصر والسعودية والأردن وسلطنة عُمان والبحرين وموريتانيا، عندما ضغط ممثلوها في الاجتماع على دولة فلسطين لتوافق على الخروج بقرار، حتى لا تظهر الجامعة بأنها أسقطت مشروع القرار الفلسطيني، قائلين: "ليس من الجيد أن ينتهي الاجتماع دون قرار"، و"يجب أن يكون هناك قرار". لكن وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي ظل متشبثاً برأيه، وأنهى هذه الضغوط قائلاً: "لديّ تعليمات من القيادة الفلسطينية تتلخص بثلاثة خيارات، وهي أولاً: إضافة بند إدانة لأي دولة عربية تخرج عن المبادرة العربية، وثانياً: تعليق الاجتماع لساعات أو أيام للتشاور، وثالثاً: إسقاط بند المشروع الفلسطيني الخاص بالاتفاق الثلاثي كلياً من جدول الأعمال".
فكان رد اللوبي العربي، الذي جيّشته الإمارات، برفض الإدانة بشكل مطلق، ورفض تعليق الاجتماع واستئنافه لاحقاً بعد التشاور. فقرر رئيس الاجتماع المالكي إسقاط البند، أي مشروع القرار الفلسطيني من جدول الأعمال، وأعلن غاضباً عن انتهاء الدورة. وتفيد المصادر، لـ"العربي الجديد"، بأن دولة السودان طلبت الحديث، فأجابها المالكي: "بأن الاجتماع خلص".
وحين سأل وزير الخارجية الجزائري صبري بوقادوم "ماذا حصل؟" أجابه الأمين العام للجامعة إن "الفلسطينيين ألحقوا ضرراً بقضيتهم من خلال عدم إخراج مشروعهم للتبني"، أي عدم موافقتهم على حذف "الإدانة"، كما حذفوا قبل يوم من الاجتماع "الرفض للاتفاق الثلاثي"، ولو فعلوا لحاز مشروعهم على توافق الدول العربية وتم تبنيه.
وزعم وزير الخارجية المصري سامح شكري، حسب ما أكده أكثر من مسؤول فلسطيني لـ"العربي الجديد"، أنه قام برعاية مشاورات سبقت اجتماع جامعة الدول العربية حول مشروع القرار الفلسطيني المقدم خلت من "أي رفض أو إدانة". وقال، حسب مصادر "العربي الجديد"، إنه رعى مشاورات شارك فيها وزراء خارجية السعودية فيصل بن فرحان بن عبد الله، والأردن أيمن الصفدي، والإمارات عبد الله بن زايد، مع أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير صائب عريقات، واتفقوا فيها على مشروع فلسطيني يخلو من "رفض للاتفاق الثلاثي، أو إدانة لأي دولة عربية تخرج عن مبادرة السلام العربية"، لكن الفلسطينيين عادوا وغيروا كل شيء يوم الاجتماع ورفضوا التخلي عن موقفهم بالإدانة.