05 يونيو 2017
كوابيس الديمقراطية الليبرالية
لن يكون نجاح مارين لوبان في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخير في سلسلة صعود رموز اليمين الشعبوي "المتطرّف" في أوروبا. يشكّل هذا الصعود كابوساً للديمقراطية الليبرالية، والنخب المهيمنة على الأنظمة في الولايات المتحدة وأوروبا، إذ يناقض اليمين الشعبوي القيم الليبرالية في الديمقراطيات الغربية، مثل بعض الحريات وحقوق الأقليات، ويُصعّد من فوبيا الأجانب والمهاجرين. تخشى النخب الليبرالية أن يتمكّن اليمين الشعبوي، مع صعوده إلى الحكم، من هدم الأسس الليبرالية للنظام، وإقامة ديكتاتورية الأغلبية، وإعادة إنتاج النازية والفاشية بشكل جديد، ومضامين مشابهة.
ربما تكون المبالغة حاضرةً في سرد هذه المخاوف، لكن المفارقة تكمن هنا، في تخوّف القوى اليمينية العربية، الراغبة في تطبيق ديكتاتورية الأغلبية فور صعودها إلى الحكم عبر الانتخابات، والتي تعلن عدم احترامها الحريات وحقوق المختلفين عنها، من نجاح اليمين الشعبوي في الغرب، لكن المسألة لا تتعلق برؤية هذه القوى للديمقراطية، بل بالتناقض الهوياتي مع اليمين الشعبوي الغربي. في كل الأحوال، تعاني الديمقراطية الليبرالية من أزمةٍ حقيقيةٍ، بعد أكثر من عقدين من تصديرها إلى العالم، بوصفها أفضل نظامٍ يمكن أن تطبقه البشرية.
قامت الديمقراطية الليبرالية، بعد الحرب العالمية الثانية، على قدرٍ كبير من التوافقات بين النخب السياسية. ومع مرور الزمن، تشكلت طبقة سياسية مهيمنة، يجري داخلها تنافسٌ محدود للغاية، ولا يمكن التمييز بوضوح بين يمينها ويسارها، ولم يكن التغيير ممكناً في هذه الحالة، خصوصاً مع نزوع الأحزاب اليسارية لتبرير السياسات النيوليبرالية، بدلاً من إحياء الصراع الطبقي. لم تكن الحاجة للتغيير ملحةً في الماضي، لكنها ملحةٌ اليوم، حيث يطرح اليمين الشعبوي البديل الوحيد تقريباً للنظام الحالي ونُخَبِه. لا تقتصر المشكلة هنا على الجمود السياسي للنظام، وشبه التطابق بين برامج النخبة المهيمنة، بل تتعدّاها إلى النمط الاقتصادي للنظام، وتأثيره على خيارات الناخبين.
ترافق بزوغ نجم الديمقراطية الليبرالية بعد الحرب العالمية الثانية، مع سطوة النهج الكينزي، الداعي إلى تدخل الدولة في توجيه الأسواق والنشاط الاقتصادي، وبروز دولة الرعاية التي توفر الحماية الاجتماعية والخدمات الأساسية لأفراد المجتمع جميعاً. في الولايات المتحدة مثلاً، أعطى هذا النمط الاقتصادي فرصةً لتكوّن طبقة وسطى، يستطيع أفرادها العيش برفاهية، وقد كان هذا العصر الذهبي للرأسمالية، ما منح مصداقيةً لفكرة "الحلم الأميركي" التي يتحسّر عليها اليوم اقتصاديون، مثل بول كروغمان، وحتى شخص يقدم نفسه مناهضاً للنظام الرأسمالي، مثل تشومسكي، فقد وصل التفاوت في الدخل بين عامي 1950 - 1980 إلى أدنى مستوياته.
الموجة النيوليبرالية التي بدأت انطلاقتها في السبعينيات، ثم برزت بوضوح في الثمانينيات، مع بداية حقبة رونالد ريغان في أميركا، ومارغريت ثاتشر في بريطانيا، حملت انتكاسةً للطبقات الوسطى والدنيا، وزاد التفاوت في الدخل بين الطبقات. وبحسب الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي، فإن نصيب الشريحة العليا (10% من السكان) من الدخل الكلي، تجاوز 35% في الثمانينيات، ثم 40% في التسعينيات، وصولاً إلى أكثر من 45% مع نهاية العقد الأول من القرن الحالي. يشير بيكيتي إلى أن الأزمة المالية عام 2008 لم توقف زيادة التفاوت الطبقي، ففي أعقاب انهيار البورصة، نما التفاوت بشكل أبطأ، وهو لم يتوقف نتيجة الأزمة، بل استمر في النمو، وقد كان من أسباب الأزمة، إذ أضعف القوة الشرائية للطبقات الوسطى والدنيا، فزاد معدل الاستدانة، خصوصا مع القروض الميسرة التي تقدمها البنوك والمؤسسات المالية.
انحسرت دولة الرعاية، وتراجع دور الدولة في الاقتصاد لصالح قوى السوق، وتناقصت أعداد الوظائف المستقرة ذات الأجور الجيدة، خصوصا مع العولمة وبحث الشركات الكبرى عن اليد العاملة الرخيصة في شرق آسيا، والتقدّم التكنولوجي الذي استبدل في مواقع كثيرة العامل بالآلة. أدى تراكم هذه المشكلات، وما أنتجته من أزمات اقتصادية، وعدم التخلي عن النهج
النيوليبرالي، حتى بعد وقوع أزمة عام 2008، إلى اقتناع الطبقة العاملة بضرورة مواجهة الفئة المهيمنة سياسياً واقتصادياً، فقد اتضح لها أن هذه النخبة السياسية تمثل مصالح الأقلية المترفة، وتبتعد تماماً عن تمثيل مصالحها، ووجدت في اليمين الشعبوي التعبير الأفضل عن انزعاجها من النخب التقليدية. وبغض النظر عن صحة هذا الأمر، قدّم اليمين الشعبوي نفسه مدافعاً عن هذه الطبقة في مواجهة الأحزاب التقليدية، وبدأ يطرح أفكاره في مواجهة العولمة وما أفرزته، لتجد قبولاً كبيراً من المتضرّرين من العولمة، وهجرة المصانع إلى شرق آسيا.
ساهم النمط الاقتصادي، وفي قلبه حجم التفاوت بين الطبقات الاجتماعية، بشكل أساسي في إيجاد أزمة الديمقراطية الليبرالية. لعل هذا يشير إلى مشكلة غياب أثر الأوضاع الاقتصادية في فهم واقع الديمقراطيات الليبرالية عند محللين كثيرين، كما يوضح أهمية العدالة الاجتماعية لاستقرار الديمقراطية.
في الحالة العربية، لم تستشعر الأحزاب التقليدية على اختلافها أهمية تغيير النمط الاقتصادي القائم، ومن وصل منها إلى الحكم أراد السير على النهج النيوليبرالي نفسه. فاق الاهتمام بشكل السلطة والنفوذ الاهتمام بالاقتصاد، والمعالجات المطلوبة لتقليص التفاوت الطبقي في المجتمع، وحماية أي ديمقراطيةٍ وليدةٍ من آثار إفقار الناس.
ربما تكون المبالغة حاضرةً في سرد هذه المخاوف، لكن المفارقة تكمن هنا، في تخوّف القوى اليمينية العربية، الراغبة في تطبيق ديكتاتورية الأغلبية فور صعودها إلى الحكم عبر الانتخابات، والتي تعلن عدم احترامها الحريات وحقوق المختلفين عنها، من نجاح اليمين الشعبوي في الغرب، لكن المسألة لا تتعلق برؤية هذه القوى للديمقراطية، بل بالتناقض الهوياتي مع اليمين الشعبوي الغربي. في كل الأحوال، تعاني الديمقراطية الليبرالية من أزمةٍ حقيقيةٍ، بعد أكثر من عقدين من تصديرها إلى العالم، بوصفها أفضل نظامٍ يمكن أن تطبقه البشرية.
قامت الديمقراطية الليبرالية، بعد الحرب العالمية الثانية، على قدرٍ كبير من التوافقات بين النخب السياسية. ومع مرور الزمن، تشكلت طبقة سياسية مهيمنة، يجري داخلها تنافسٌ محدود للغاية، ولا يمكن التمييز بوضوح بين يمينها ويسارها، ولم يكن التغيير ممكناً في هذه الحالة، خصوصاً مع نزوع الأحزاب اليسارية لتبرير السياسات النيوليبرالية، بدلاً من إحياء الصراع الطبقي. لم تكن الحاجة للتغيير ملحةً في الماضي، لكنها ملحةٌ اليوم، حيث يطرح اليمين الشعبوي البديل الوحيد تقريباً للنظام الحالي ونُخَبِه. لا تقتصر المشكلة هنا على الجمود السياسي للنظام، وشبه التطابق بين برامج النخبة المهيمنة، بل تتعدّاها إلى النمط الاقتصادي للنظام، وتأثيره على خيارات الناخبين.
ترافق بزوغ نجم الديمقراطية الليبرالية بعد الحرب العالمية الثانية، مع سطوة النهج الكينزي، الداعي إلى تدخل الدولة في توجيه الأسواق والنشاط الاقتصادي، وبروز دولة الرعاية التي توفر الحماية الاجتماعية والخدمات الأساسية لأفراد المجتمع جميعاً. في الولايات المتحدة مثلاً، أعطى هذا النمط الاقتصادي فرصةً لتكوّن طبقة وسطى، يستطيع أفرادها العيش برفاهية، وقد كان هذا العصر الذهبي للرأسمالية، ما منح مصداقيةً لفكرة "الحلم الأميركي" التي يتحسّر عليها اليوم اقتصاديون، مثل بول كروغمان، وحتى شخص يقدم نفسه مناهضاً للنظام الرأسمالي، مثل تشومسكي، فقد وصل التفاوت في الدخل بين عامي 1950 - 1980 إلى أدنى مستوياته.
الموجة النيوليبرالية التي بدأت انطلاقتها في السبعينيات، ثم برزت بوضوح في الثمانينيات، مع بداية حقبة رونالد ريغان في أميركا، ومارغريت ثاتشر في بريطانيا، حملت انتكاسةً للطبقات الوسطى والدنيا، وزاد التفاوت في الدخل بين الطبقات. وبحسب الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي، فإن نصيب الشريحة العليا (10% من السكان) من الدخل الكلي، تجاوز 35% في الثمانينيات، ثم 40% في التسعينيات، وصولاً إلى أكثر من 45% مع نهاية العقد الأول من القرن الحالي. يشير بيكيتي إلى أن الأزمة المالية عام 2008 لم توقف زيادة التفاوت الطبقي، ففي أعقاب انهيار البورصة، نما التفاوت بشكل أبطأ، وهو لم يتوقف نتيجة الأزمة، بل استمر في النمو، وقد كان من أسباب الأزمة، إذ أضعف القوة الشرائية للطبقات الوسطى والدنيا، فزاد معدل الاستدانة، خصوصا مع القروض الميسرة التي تقدمها البنوك والمؤسسات المالية.
انحسرت دولة الرعاية، وتراجع دور الدولة في الاقتصاد لصالح قوى السوق، وتناقصت أعداد الوظائف المستقرة ذات الأجور الجيدة، خصوصا مع العولمة وبحث الشركات الكبرى عن اليد العاملة الرخيصة في شرق آسيا، والتقدّم التكنولوجي الذي استبدل في مواقع كثيرة العامل بالآلة. أدى تراكم هذه المشكلات، وما أنتجته من أزمات اقتصادية، وعدم التخلي عن النهج
ساهم النمط الاقتصادي، وفي قلبه حجم التفاوت بين الطبقات الاجتماعية، بشكل أساسي في إيجاد أزمة الديمقراطية الليبرالية. لعل هذا يشير إلى مشكلة غياب أثر الأوضاع الاقتصادية في فهم واقع الديمقراطيات الليبرالية عند محللين كثيرين، كما يوضح أهمية العدالة الاجتماعية لاستقرار الديمقراطية.
في الحالة العربية، لم تستشعر الأحزاب التقليدية على اختلافها أهمية تغيير النمط الاقتصادي القائم، ومن وصل منها إلى الحكم أراد السير على النهج النيوليبرالي نفسه. فاق الاهتمام بشكل السلطة والنفوذ الاهتمام بالاقتصاد، والمعالجات المطلوبة لتقليص التفاوت الطبقي في المجتمع، وحماية أي ديمقراطيةٍ وليدةٍ من آثار إفقار الناس.