كل هذه السدود على النيل

23 ديسمبر 2017
+ الخط -
اخترقت التعبئة الزائدة من نظام الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، تفاصيل الحياة على أرض الكنانة، فقد نبش هذا النظام أكثر القضايا حساسية وحيوية، وألقاها من دون حلّ على وجه الشعب المغلوب على أمره. وبدلاً من أن ينشغل الرأي العام بخياره القادم، ليضع حداً للعبء الذي جاء به النظام، انقسم إلى تيارٍ يتقاذفه الاستقطاب بشكل حاد، وآخر تائه لا يدري ماذا يريد.
يختصر هذه الصورة الإطار المصغّر لما يحدث في البرلمان المصري إزاء قضية حيوية، مثل قضية سدّ النهضة، فوسط التباين في وجهات النظر على قضايا عديدة، انقسم نواب البرلمان بين موافق ومعارض لزيارة رئيس الوزراء الإثيوبي، هايلى ماريام ديسالين، إلى مصر، بدعوة من الحكومة المصرية، ورداً لزيارة السيسي إلى أديس أبابا، والتي ألقى خلالها كلمة أمام البرلمان الإثيوبي في العام 2015.
يرى نوابٌ أن هذه الزيارة التي كان مخطّطاً أن تتم في ديسمبر/ كانون الأول الجاري مناورة جديدة للحكومة الإثيوبية، لترويج موافقة مصر على بناء السد، في ظلّ عدم إلمامهم بأي معلومات عن الدور الذي قامت به الحكومة لحل أزمة السد، وتغييبهم عن أبعاد القضية، وأسباب توقّف المفاوضات مع الجانب الإثيوبي. كما اعتبروا إلقاء كلمة رئيس الوزراء الإثيوبي أمام البرلمان نوعا من الاستفزاز، وأنّ إثيوبيا ستستغلها في المحافل الدولية. أما الموالون للنظام فقد نعتوا زملاءهم في البرلمان بالباحثين عن البطولة المزيفة. وفي خضم هذه الحالة الملتبسة، وهذا الانقسام، وقفت الحكومة المصرية عاجزةً عن تقديم أي توضيح، حتى أنّها لم تُشر إلى أنّها قدمت الدعوة الرسمية لرئيس الوزراء الإثيوبي، في ظل تسابق تغطية وسائل الإعلام المصرية أخبار الزيارة والجدل حولها.
بعد سلسلة طويلة من المفاوضات المضنية التي عقدتها لجنة سد النهضة، تعثّر الاتفاق أو حتى التوافق حول نقاط معينة، وسيطرت فصولٌ من المشادة الدبلوماسية بين السودان ومصر وإثيوبيا على المشهد. ليس هذا فحسب، بل أخذ الخلاف يتعاظم، وأصبحت نبرته تشوبها الحدّة والتوتر مع تبادل الانتقادات.
قام النظام المصري بتغيير الاستراتيجية إلى خط هجومي، تمثّل في العزم على تشييد سد شلاتين، ليصطاد عصفورين بحجر واحد. الأول، التلويح لإثيوبيا بمقدرة مصر على التصدّي لسد النهضة الذي شارف على الانتهاء. والثاني، وضع المنطقة المتنازع عليها بين مصر والسودان في حكم الأمر الواقع، إلى درجة تشييد مرفق حيوي عليها قبل حسم الخلاف. لا يمكن حسم هذا الربط المتعسّف بين قضايا خلافية جوهرية، أو التوافق حوله بين ليلة وضحاها، خصوصا وسط إصرار الطرفين على سيادتهما على المنطقة. وما يباعد الشقّة تمسّك السودان
بدعوة مصر إلى التفاوض المباشر معه حول مثلث حلايب وشلاتين وأبو رماد، أو اللجوء إلى التحكيم الدولي لحسم النزاع. وهذا ما يبدو أنّه فاقم من مخاوف نظام السيسي من التأثير السلبي لرفضه التفاوض مع السودان، بشأن حلايب وشلاتين، على الدعم السوداني لمصر في مفاوضات سد النهضة.
سد شلاتين هو آخر المحاولات المستميتة من أجل مواجهة سد النهضة، من دون النظر إلى ما يمكن أن يفعله في شعب المنطقة من تهجير أو إغراق لأراضيهم ومزارعهم، مثلما حدث في السد العالي من تهجير للنوبة في الجانبين، المصري والسوداني. في الواقع، هذه الخطط جزء من سياسات العسكر، فعن طريق التأميم وإعادة توزيع الثروة يتمكّن العسكر من تحطيم الزعامات السياسية التقليدية، أو التشكيلات الرأسمالية القوية، فيسعى إلى إزالتها ليحلّ محلها.
ينطلق عبد الفتاح السيسي من فاعلية العسكر في مشاريع التنمية، وهي مرهونة بالأوضاع والقطاعات الاقتصادية والاجتماعية العامة في المجتمع. ولا يخرج التفكير من نزعة التضخيم بتبنّي المشاريع الكبيرة، حتى ولو لم تكن ذات جدوى اقتصادية كبيرة، فقط من قبيل المصادمة والكسب السياسي، كمشاريع التأميم الصناعي، وبناء السدود وصراع الحدود واستيراد الأسلحة وشنّ الحروب. يحاول السيسي في بناء مشروع كبير، كسدّ شلاتين، إلى عسكرة المجتمع بإحداث رأي عام، يتوحّد باختياره مكان السد والمضاربة على وطنية الشعب المصري بأنّ من ليس مع السد فهو ضد الوطن، فبالتركيز على مشروع ضخم، مثل مشروع السد، يعتبر السيسي هذا الإجراء مهما لصهر المجتمع في صف واحد، موازٍ لصفّ العسكر. لكن واقع الأحوال يقول إنّ الهوة التي تفصل بين نظام السيسي والشعب كبيرة، فيبشّر رجال النظام بالاصطفاف، وتعامل هذه الذهنية الشعب كأنّه مصنوع.
عجز الدول الثلاث عن الإتيان بحل جذري جلعها تستلف من أضابير التاريخ ما يمكن أن يمدّها بمبرّرات فانتازية. بنى نظام السيسي موقف مصر على أساس أحقيتها التاريخية، كون أول سدّ في تاريخ البشرية أقيم منذ حوالي 4000 عام قبل الميلاد، وكان لغرض تحويل مجرى نهر النيل في مصر من أجل إنشاء مدينة ممفيس عاصمة مصر فى عصر الدولة القديمة والعاصمه الإدارية والعسكرية فى زمن الدولة الحديثة. كما ارتبطت نشأة المدينة بقيام الوحدة بين دلتا النيل والصعيد أيام الملك مينا. أما موقفا إثيوبيا والسودان فأخذا من النزعة الأفريقية، والشعبان على قناعة قوية بأنّهما من نسل سيدنا سليمان والملكة بلقيس، وبالتالي هما يريان أدوارهما التاريخية المقدسة بناءً على هذه الخلفية. فالبلدان الثلاثة تتعاطى مع بعضها لمناقشة مشكلة سد النهضة بناءً على الجانب الأسطوري الذي يشكل نظرتهم إلى العالم الخارجي.
8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.