كلوت بك... شارع له تاريخ

29 ابريل 2017
(العربي الجديد)
+ الخط -
يقع شارع "كلوت بِك" بين اثنين من أهم ميادين القاهرة القديمة، هما ميدان رمسيس (باب الحديد سابقاً)، وميدان العتبة. و"كلوت بك" هو اسم طبيب فرنسي، عهَدَ إليه محمد علي الكبير، حاكم مصر، تنظيم أمور الجيش المصري الصحيَّة. وقد أثمرت جهوده في ذلك المجال نهضة كبيرة ظهرت آثارها في إنشاء مدرسة للطب في أبو زعبل عام 1827 وغيرها. وتقديراً لجهوده، أنعمَ عليه محمد علي بلقب "بك". وبعد وفاة الطبيب، أنطوان كلوت بك، عام 1868، أُطلِقَ اسمه على أحد أهم شوارع العاصمة المصرية آنذاك، وكان يطلق عليه قبل ذلك "شارع الأزبكية".
بافتتاح محطة السكك الحديدية في ميدان رمسيس، انتعشت الحياة في شارع كلوت بك الذي دخله "الترام"، وأقيمت على جانبيه المباني الفخمة على الطراز الأوروبي. وأسفل منها افتتحت المحلات التجارية للأجانب المقيمين بالقاهرة ولبعض التجار الأثرياء من المصريين والعرب، فظهرت اللافتات باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية. وصار الشارع مكاناً للتنزُّه والتسوّق، وممرَّاً للوصول لمنطقة الأزهر والعتبة بوسط القاهرة. مع التحديثات العمرانية التي عمل عليها الخديوي إسماعيل، ارتفعت المباني ذات الأساليب الأوروبية، والتي لا يزال منها الكثير على حالته حتى اليوم، وتمثّل قيمة أثريّة ومعماريّة يناشد بعض الأثريين الدولة للحفاظ عليها وترميمها، وإنقاذها من الزحف العمراني الاستثماري الذي غيّر ملامح عدة أجزاء من الشارع العريق.
عرف الشارع ظهور القليل من دور اللهو في أيام الحملة الفرنسية. ولكن، مع الاحتلال الإنكليزي، انتشرت على جانبي الشارع الحانات والملاهي الليلية الصاخبة. كما أصبح شارع كلوت بك مركزاً لمهنة الدعارة، والتي وجدت من أجل خدمة جنود الاحتلال، بل إنّ القوات الإنكليزية قامت باستقدام بغايا من جنسيات متعددة، بعد أن ظهر تآمر البغايا المصريات عليهم، وتعددت حوادث التمرد من قبلهن، ما دفع المصريين إلى إطلاق اسم "شارع البغاء المستورد" على كلوت بك، إذ حَظِيَ الشارع بسمعة غير طيبة فترة طويلة من الزمن إلى أن تم تجريم الدعارة في مصر في منتصف القرن الماضي. وكان الوجود الإنكليزي المكثف في هذا الشارع، مع صخبه الدائم، قد جعله مسرحاً دائماً للعمليات الفدائية التي تستهدف الجنود الإنكليز وقنصهم.
مع أربعينيات القرن الماضي، ظهرت أنشطة عديدة في الشارع، مثل المقاهي الثقافية والفنية التي كان يجتمع فيها الفنانون والمثقفون، وكان من أهمها مقهى الشيخ زكريا أحمد. وعلى امتداد الشارع افتتحت المكتبات وأقيمت المطابع أيضاً.
وتظل "اللوكندات" الشعبية القديمة، وهي نُزُل أو فنادق صغيرة، أبرز ما يميز شارع كلوت بك حتى اليوم، فموقعهُ المميّز أمام محطة السكة الحديد، يجعله أول محطة أمام أبناء سكان الأقاليم المغتربين، وهذه اللوكندات تمتاز برخص أسعارها، ورداءة خدماتها، وعدم توافر عناصر الجودة والأمن. وكانت الجالية السودانية في القاهرة صاحبة الحضور الأكبر في هذا الشارع حتى فترة التسعينيات، إذ اشتهر أفرادها بـ"تجارة الشنطة" وتوزيع السلع الخفيفة في أرجاء القاهرة، وكانت لوكندات الشارع مركزاً مناسباً للإقامة والانطلاق للعمل. والآن تنتشر في الشارع العديد من أشكال التجارة، إذ يمثّل سوقاً مفتوحاً للعديد من السلع.



المساهمون