كلاي.. من سيرة كاريزما

06 يونيو 2016

كلاي.. أسطورة لا تتكرر (4مارس/1976/Getty)

+ الخط -
في 1960، وفي دورة روما الأولمبية التي كانت أول دورةٍ بدأت زخم الدورات الكبيرة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث بنت الحكومة الإيطالية للدورة استاد روما الجديد، وأكملت تجديد مطار دافنشي في منطقة فوموشينو خارج روما، وربطه بالعاصمة بشبكة طرق سريعة، لفت أنظار العالم فتى يافع في الثامنة عشرة اسمه كاسيوس مارسيلوس كلاي جونيور، ولد في 1942 في مدينة لويفيل في ولاية كنتاكي في الولايات المتحدة. حصل الفتى على الميدالية الذهبية في الوزن الثقيل في الملاكمة، وأدخل أسلوباً جديداً راقصاً في هذه الرياضة التي اعتمدت على العنف والقوة البدنية في الماضي. كان ثرثاراً يتمتع بطلة بهية رشيقة، ووسامة ظاهرة. ربما اكتشف هذا الفتى مبكراً أن التلفزيون الذي ظهر أول مرة وسيلة إعلامية جديدة هو الذي أسهم، من دون شك، في صعود نجم جون كيندي وإبراز الكاريزما الأسطورية لأصغر رئيس في تاريخ الولايات المتحدة، فأراد تتبع خطواته لنشر أسلوبه الراقص المتميز في الملاكمة، وتوسيع دائرة الشهرة لنفسه، ليخدم من خلالها قضية المهمشين من بني جلدته، وليكمل مشواراً بدأت خطواته تدق الأرض بقوة في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي، بقيادة الآباء المؤسسين لقضية الحقوق المدنية، مثل مارتن لوثر ومالكوم إكس وأليجا محمد. يدفعه إلى ذلك واقع عاشه في الشارع المنقسم بين البيض والسود، والواقع المنزلي، حيث كافحت فيه امراة هي أمه بالعمل خادمة في فنادق الدرجة الثالثة ومنازل الميسورين من البيض وبعض المدارس، لتؤمن له العيش الكريم ومصاريف التدريب لهوايته الرياضية.
في 1964، وبأسلوبه الدرامي، تحدّى، بعد إحدى المباريات، بطل العالم في الوزن الثقيل سوني ليستون الذي لم يهزم، منذ أن احترف الملاكمة، والذي أنهى كل مبارياته الاحترافية مع منافسيه بالضربة القاضية. وافق ليستون، مضمراً في نفسه، تأديب هذا الفتى الثرثار، وحبس العالم أنفاسه إشفاقاً على الفتى الغرير الذي تعجل الصعود إلى القمة في رأيهم. أنهى كلاي المباراة بالضربة القاضية، مستعرضاً أسلوبه الراقص وخفته ورشاقته (أرقص كالفراشة وألسع كالنحلة). لفتت مباراته مع الغوريلا البشرية ليستون إليه الأنظار بشكل غير مسبوق، وبدأ في تحدّي الملاكمين البيض، لينهي كل مبارياته بالضربة القاضية، متعمداً لفت النظر إلى قضية التهميش، الأمر الذي دفع داعية الحقوق المدنية التاريخي مارتن لوثر، ليعلق (ولدينا الآن من تعادل سرعة ضربته 900 كيلومتر في الساعة وبقوة نصف طن).
في ذلك الوقت، التقى الداعية الاسلامي أليجا محمد، وأسلم على يديه، وانضم إلى جماعة أمة الإسلام. كان، في ذلك الوقت، قد انتصر على كل منافسيه، ومن تحدّوه من السود والبيض، وأصبح ملكاً متوجاً على عرش الملاكمة، من دون منازع، وأصبحت خفته ورشاقته حافزاً لآلاف الشباب في كل أنحاء العالم، لحذو حذوه، حتى ضاقت بهم حلقات الملاكمة والدورات الأولمبية والإقليمية.
استدعته الحكومة الأميركية لأداء الخدمة الوطنية في فيتنام ورفض، وجعل منها قضية كبيرة
لمناهضي الحرب في أميركا (الفيتكونغ ليسو أعدائي، لم ينعتوني بأنني زنجي حقير، أعدائي هنا، أعدائي دعاة الفصل العنصري والتهميش. لن أذهب إلى حرب أقتل فيها بشراً لا ذنب لهم في أرضهم). كلفه هذا الموقف حريته ثلاث سنوات، وتجريده من لقب بطل العالم في الملاكمة، لكنه أضاف إلى شعبيته بعداً أممياً آخر، لم ينتبه له الذين أرادوا إسكات صوته العالي. بعد ثلاث سنوات، أنصفته المحكمة العليا في أميركا، وعاد إلى ميدانه ليسترجع لقبه العالمي، بعد سلسلة من المباريات والتصريحات والحملات الإعلامية الصارخة. لم تكن هذه آخر مرة يسترجع فيها لقب بطل العالم في الملاكمة للوزن الثقيل، لكنه استرد اللقب ثلاث مرات (1964 و1974 و1978) في أقل من عشرين سنة كإنجاز لم يُتح لغيره من أبطال الرياضة في العالم.
عندما اعتنق الإسلام، لم يضع اهتماماً لما سيحدث من انتقاصٍ لشعبيته في مجتمعٍ تسيطر عليه الثقافة المسيحية، لكن شعبيته وحب الناس له زادت واكتسحت الآفاق، وأصبح اسمه محمد علي كلاي، الاسم الذي اختاره له أستاذه أليجا محمد. لم يكن أمثال الرياضيين المنعزلين عن مجتمعاتهم، فكما كان مناضلاً شرساً ضد سياسات التمييز العنصري في أميركا، وعضواً فاعلاً في حركة الحقوق المدنية، استثمر محمد علي في التعليم، في بناء المدارس، مرسلاً رسالة بليغة لزميله وابن جلدته، مايكل جوردان، بطل كرة السلة المعروف الذي استثمر جل ماله الذي جمعه من الرياضة في بناء السجون. وبنى لأمه قصراً في مسقط رأسه يليق بسني نضالها وتعبها من أجله.
اعتزل محمد علي الملاكمة في 1980، وفي 1984 أصيب ببدايات الشلل الرعاشي الذي لازمه بقية سني حياته. وفي 1999، توّج بلقب "رياضي القرن،" وقلده الميدالية الرئيس جورج بوش. تدهورت حالته الصحية في 2005 بشكل ملحوظ، وتوالت بعدها نكساته الصحية، حتى توفي... كان أسطورة ليس من السهل أن تتكرّر.
67EE2B24-6376-4DE6-AB80-43EB208AA9CA
مضوي الترابي

كاتب وباحث سوداني في الشؤون الاستراتيجية مقيم في لندن