كعب عالٍ يختصر زمن الطفولة

11 ديسمبر 2014
الكعب العالي من أجل اختصار زمن الطفولة (Getty)
+ الخط -
ترتدي الفتاة الصغيرة حذاء أمها ذا الكعب العالي. بفرح تغوص قدماها في الحذاء وهي تحاول لعب دور أمها وتتفركش. مشهدٌ موجود في ذاكرة غالبية النساء عن محاولتهن الأولى للسير بكعب عالٍ من أجل اختصار زمن الطفولة والتحول إلى نساء ناضجات كاملات الأنوثة، تماماً كأمهاتهن.

من الأكيد أنّ الحذاء ذا الكعب العالي قديم قدم الحضارات المزدهرة، فهو موجود مثلاً في إحدى الجداريات الفرعونية، كما استعمله الفرس والصينيون وغيرهم من الشعوب عبر التاريخ. أمّا أوروبا، التي عمّمت رواج الكعب العالي في العصور الحديثة، فقد شهدت بدايات هذا الرواج منذ العصور الوسطى، حين كان ارتداؤه دليلاً على الجاه والثراء.

يرتبط الكعب العالي بفكرة الأنوثة والإغواء (رغم ارتدائه تاريخياً من قبل النساء والرجال سواسية)، فهو يضيف إلى الجسم طولاً ورشاقة، كما يبرز حركة الأرداف عند المشي، فيزيد ذلك من الإيحاء الجنسي للمرأة. أمّا نوع هذا الكعب من حيث الارتفاع أو الرهافة أو الفظاظة، ونوع الحذاء نفسه من حيث الأناقة وجودة النوعية أو رخصها، قد ينقل صاحبة الحذاء من صفة الإغواء إلى الابتذال... والفرق بين الصفتين شعرة.

في أحد مطاعم بيروت الصغيرة، لفت نظري ملصقٌ إعلانيّ يعود تاريخه إلى بداية الخمسينيات ربّما، تظهر فيه قدما امرأة تلبس حذاء شبيهاً بالأحذية الرجالية، مع كتابة باللغة الإنجليزية تحذر النساء من ارتداء الكعب العالي في العمل؛ لمخاطره الكثيرة على السلامة والصحة. هذه الحملة الإعلانية الحاصلة منذ حوالى السبعين سنة، وكل الحملات التي سبقتها وتلتها لم تستطع أن تثني النساء عن ارتداء الكعب العالي، رغم كل المشاكل الناتجة عنه، ومنها- مثلاً لا حصراً- مسامير القدم وأوجاع في أوتار الساق والفقرات وأسفل الظهر. كما يمكن لهذا الكعب أن يكون سبباً للكثير من الحوادث أثناء السير.

ورغم أن الحذاء المسطح أكثر راحة بما لا يقاس، ويعطي المرأة حرية أكثر في الحركة أثناء العمل، إلا أن الكثير من النساء يعبرن بصراحة أنهن يفضلن الإحساس الذي يعطيه لهن ارتداء الكعب العالي على الإحساس بالراحة! ويعيدنا ذلك إلى المثل الشعبي القديم "الغوا بدو قوى". فكثيرة هي الأشياء التي تحتاج إلى "قوى" وتفعلها النساء راضيات من أجل الظهور بطريقة تبرز جمالهن وأنوثتهن، كالتخلص من الشعر الزائد مثلاً، أو تجويع أنفسهن من أجل الحصول على جسم رشيق، أو حقن أنفسهن بإبر البوتوكس من أجل إخفاء آثار العمر والزمن.

لكن العلاقة مع الكعب العالي ليست بهذه البساطة، إذ إن الكثيرات يبتعدن عن ارتدائه في العشرينيات من العمر، غالباً في المرحلة الجامعية، كنوع من التمرد على الصورة النمطية للأنثى، وليبدون أكثر حرية في الجينز والحذاء المسطح، حيث حرية "النطنطة" واللهو والأنوثة اليافعة. لكن العلاقة ليست بهذه البساطة، فعودة الصبيّة في مراحل تالية إلى الكعب العالي، هو على الأرجح رجوع إلى تلك الذكرى الأولى التي تحدد علاقتها مع أمها.

ويحضرني هنا فيلم المخرج الإسباني المودوفار "كعب عالٍ"، فترجمة عنوان الفيلم إلى اللغات الأخرى ليست أمينة لعنوانه الأصلي. فالعنوان الإسباني هو "كعب مُبتعد" بما معناه الصوت المبتعد للكعب العالي. وهي الجملة التي تختصر الفيلم والعلاقة المتناقضة المتأرجحة بين الحب والكره التي تربط بطلتي الفيلم: الأم وابنتها. فمع اقتراب النهاية ومشهد احتضار الأم، العائدة بعد غياب عمر كامل، تمر امرأة في الشارع وتبتعد، فيبتعد صوت نقر حذائها على الطريق، فتخبر الابنة أمها أنها حين كانت طفلة كانت تدّعي النوم، لكنها لا تنام، بل تظل منتظرة أن ترجع أمها إلى البيت، وكانت تعرف أنها وصلت من صوت نقر كعبها العالي على البلاط. وحين تنهي المرأة حكايتها تنتبه أن أمها ماتت قبل أن تسمعها.
دلالات
المساهمون