صبيحة 17 ديسمبر/ كانون الأول سنة 2010 قام شاب تونسي من ولاية معدمة تسمّى سيدي بوزيد بإحراق نفسه فأشعل ثورة امتدّت شرقاً نحو مصر، ليبيا، اليمن، سورية.
فعل بسيط أيقظ أمّة كانت تنام في سبات عميق طيلة سنوات، هانئة مستبشرة بقمع وفقر وذلّ لم تنجح الطبقة السياسية المعارضة في تحشيد الناس وتوعيتهم بحقوقهم، طبعا ذلك لم يكن يعني أن الشعوب العربية ليست واعية بحقوقها ولكنها لم تضع ثقتها لا في نظام ولا في معارضة فالكلّ عندها شيء واحد "سياسي يعني كذّاب".
يتساءل العديدون ونحن في الذكرى الخامسة على اندلاع الثورة التونسية حول الأهداف التي حققتها ثورة رفعت شعارات "خبز، حرية، كرامة وطنيّة" فهل نرى أمامنا إلا ازياداً للبطالة؟ وهل نرى فعلا كرامة والفساد تضاعف قرابة الأربع مرات في حكومات الثورة؟
لا أتصوّر أنّ الأمر يخضع أوّلا لكشف حساب ما للثورة وما عليها، في وقت لا يمكن الجزم فيه بأن الثورة انتهت، وأنها مطالبة اليوم بتحقيق أهداف لثورة لم تكن مالكة قيادة تعمل على تحقيق تلك الأهداف.
ففي محطّات الحراك الثوري كاعتصام القصبة 1 والقصبة 2 الذي أطاح بالوزير الأول لبن علي وأقرّ انتخابات مجلس تأسيسي يقوم بنسف الدستور القديم وبناء مؤسّسات دستورية جديدة ودستور قائم على حماية الحريات، والذي فعلا تحقّق وحمى مسارا كاملا نعيشه اليوم، فانتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2014 كانت على أساسه مهما اختلفنا على نتائجها التي لم تكن إلّا تعبيرا عن "قرصة أذن" من الشارع التونسي لطبقة سياسية ثورية لم تع أن أهداف الثورة ليست تلك التي رفعت كشعارات، فالشعارات آنذاك لم تكن مدركة لمتطلّبات الشارع التونسي الذي كفر بالسياسة التي لم توفّر له قوت عيشه واستمرأت صراعات لم تكن لتظهر لولا أنها توحّدت زمن الدكتاتورية فوحدتهم ساحات النضال وفرقتهم المناصب والخلفيات.
أهداف لثورة لم يكن أهلها واعين بها إلا بعد اعتصام القصبة 2، والذي كان بعد قرابة شهر من هروب بن علي، وقتها فقط بدأ الشباب بالمضيّ في تحقيق أهداف أخرى رسموها عقلانيا وحقّقوها بطريقة أو بأخرى، ولكن مقولات الخبز للجميع والكرامة للجميع والحريّة للجميع كنا واعين فيما بعد أنّها أهداف لا يمكن أن تتحقّق حتى في المدينة الفاضلة، فما بالك ببلد لم تدم ارتدادات حراك ثوري دام 28 يوما قبل هروب الطاغية ولأشهر بعد هروبه أن تغيّر عقليات نمت وتشبّعت على يد دولة القمع والإستبداد والفساد.
لا يمكن الحديث على أهداف معينة لم تحقّق وإنما تتغيّر الأهداف كلما تقدمنا في مرحلة ما، فقد كانت شعارات الثورة "خبز حرية كرامة وطنية" ثمّ انتقلت إلى شعارات "مجلس تأسيسي واجب، انتخابات واجب" ثمّ بعد اغتيال السياسي شكري بلعيد "وحدة وطنيّة... واجب"، والدخول في تجربة ما يسمّى بالتوافق، والذي كان ضمن أهداف حينيّة للثورة، فالصراع الذي كان قائما بين القوى اليسارية وحزب نداء تونس وبقية بقايا النظام السابق وبين القوى الثورية وحركة النهضة من جهة أخرى، في معسكرين متضادين، وعلى شفا حرب أهلية وإجهاض للعملية السياسية برمتها كالذي حدث في مصر لم يكن هدفاً للثورة آنذاك، فلم يكن إلا التنازل والتوافق حتى مع هؤلاء الذين ثار عليهم الشعب، فتراجع الثوار خطوة للخلف من أجل خطوة للأمام تمرّ بها البلاد ككلّ.
بقاء العمليّة السياسية مهما كانت نتائجها خسارة أو ربحا للقوى الثورية كان أهم من انتهاج "المغالبة" التي لن تفضي إلا لدماء ستحسم الصراع لصالح لوبيات داخلية "نظام قديم" وخارجية "إقليمية ودولية" تعمل على وأد ثورة قد تمتد لسنوات لكي تحقّق أهدافها الواعية.
الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير أهم مكاسب الثورة التونسية التي لن يختلف فيها اثنان مهما كان تسجيل حالات التعذيب والاقتحام والإقامات الجبرية التي لا يمكن أن تبقى عمليات سريّة وسط مجتمع مدني ينبض ويعرّي كل بقايا ممارسات تطلّ علينا من فترة لأخرى تحت مقولات محاربة الإرهاب، ذلك الزائر الذي غيّر مسارات الثورة التونسية وأولوياتها وأعطى هدايا بلا حساب للأجهزة القمعية القديمة وللمنظرين لها من أشباه المثقفين والسياسيين المفلسين.
(تونس)