لم يكن هناك أي شك بدور الموساد الإسرائيلي في اغتيال القيادي في "حزب الله" اللبناني، عماد مغنية، وسط العاصمة السورية دمشق عام 2008. وكان الاشتباه في النظام السوري أكثر قوة لدى بعض الدوائر من الاشتباه بضلوع الولايات المتحدة في العملية، حتى كشفت صحيفة "واشنطن بوست"، في تحقيق استقصائي أمس السبت، أن فريقاً أميركياً مؤلفاً من عدة عناصر تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي آي أي" كان في دمشق يراقب بأجهزة حديثة وتقنيات تحديد المواقع والوجوه تحركات مغنية دقيقة بدقيقة، ويشارك الموساد في التخطيط والتنفيذ.
وفي تبرئة غير مباشرة لنظام الرئيس السوري بشار الأسد من دم عماد مغنية، لم ترد في تحقيق "واشنطن بوست" أي إشارة لدور سوري في تسهيل العملية، حسبما كان يتردد حينها في دوائر بعيدة الصلة عن "حزب الله". وتتهم الولايات المتحدة وإسرائيل عماد مغنية بأنه المسؤول عن تفجير السفارة الأميركية في بيروت والسفارة الإسرائيلية في الأرجنتين.
ونتيجة الدافع الثأري المشترك بين الولايات المتحدة وإسرائيل للانتقام من مغنية، فقد مثّلت الشراكة في عملية اغتياله تعاوناً استثنائياً غير مسبوق بين أجهزة الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية.
هذا التنسيق الوثيق بين الطرفين فرضته الأهمية القصوى لـ"الهدف المذهل"، حسب توصيف "واشنطن بوست"، وهي الصحيفة التي كشفت فضيحة "ووترغيت" وأسقطت الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون عام 1973.
ويثير توقيت تسريب المعلومات ونشرها، تزامناً مع اقتراب الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من التصالح مع إيران بشأن ملفها النووي، تساؤلات حول ما إذا كان هناك في واشنطن وتل أبيب مَن يريد جرّ "حزب الله" إلى مستنقع الثأر، ليس من إسرائيل وإنما من أميركا ذاتها، قبل انتهاء المفاوضات النووية، وربما بهدف تأزيم الأوضاع الميدانية في المنطقة العربية وتقديم خدمة مجانية لمعارضي الاتفاق المحتمل أو معارضي الرئيس الأميركي باراك أوباما.
واستقت "واشنطن بوست" معلوماتها عن اغتيال مغنية، من أكثر من مسؤول استخباري سابق تحدّث بصفته مشاركاً في التخطيط أو التنفيذ لعملية الاغتيال. وأكد صحة اشتراك الولايات المتحدة في العملية خمسة مسؤولين سابقين آخرين في أجهزة استخبارية أميركية.
وتشير معظم التفاصيل التي وردت على لسان مسؤول سابق في الوسط الاستخباري الأميركي، إلى دور أميركي أكبر من المتوقع قام به عناصر الفريق المشارك في العملية من عملاء الوكالة الأميركية (سي آي أي). وعلى الرغم من أن هذه التفاصيل لا تتجاهل دور الموساد الإسرائيلي، إلا أنها حجّمت هذا الدور أكثر من المتوقع عن طريق الإيحاء بأنه اقتصر على تفجير القنبلة بجهاز تحكّم عن بُعد من داخل تل أبيب.
أما القنبلة ذاتها التي قُتل فيها عماد مغنية، فقد جرى تصنيعها واختبارها في أحد مقار وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في ولاية نورث كارولينا، من أجل التأكد من عدم سقوط ضحايا أبرياء أو أضرار جانبية عدا المستهدف من القتل، وفق ما قال مسؤول استخباري سابق للصحيفة.
وحسب قول أحد المسؤولين السابقين، فإن سعي الاستخبارات الأميركية لعدم وقوع أضرار جانبية كان نابعاً من الحاجة لإقناع مُشرّعين أميركيين، لم تحدد الصحيفة هويتهم ولكن من المعتقد أنهم الأعضاء الكبار في لجنتي الاستخبارات في الكونغرس، من أجل الموافقة المسبقة على العملية.
وكشف المسؤول السابق بذلك للمرة الأولى بأن أعضاء في السلطة التشريعية الأميركية كانوا على علم مسبق بالعملية وصادقوا على تنفيذها، ناهيك عن أن موافقة البيت الأبيض كانت أمراً حتمياً إضافة إلى موافقة وزارة العدل ومستشاري الرئيس السابق جورج بوش لمكافحة الإرهاب ومسؤولين آخرين كشفت المصادر توقيعهم على تنفيذ العملية الخارجية، على الرغم ممّا كان يعتريها من مخاطر وما كان يمكن أن تودي إليه من سقوط قتلى أو إلقاء القبض على أكثر من أميركي من أعضاء فريق الرصد والرقابة والتصوير والتنفيذ.
ولوحظ أن "واشنطن بوست" استخدمت وصف "مسؤول سابق في الوسط الاستخباري الأميركي"، عند الإشارة لمصدر أي معلومة جوهرية، الأمر الذي يُرجّح بأن المقصود كان يعمل في إحدى الوكالات الاستخبارية الـ16 المتنافسة، وليس بالضرورة في الوكالة المنفذة للعملية (سي آي أي).
وهذا الأمر يشير إلى أن المصدر ذاته قد استقى معلوماته التفصيلية من مصادر إسرائيلية مشاركة في العملية لها مصلحة في كشف تفاصيلها وتفادي دفع الثمن. وما يُرجّح هذا الاحتمال هو الحساسية الفائقة للعملية التي يُفترض أن يتم التخطيط لها في نطاق من السرية بالغ الشدة، بما لا يسمح للوكالات الأخرى المنافسة معرفة أي جزئية في العملية.
يشار إلى أن الولايات المتحدة لم تعترف قط بأي دور لها في عملية اغتيال مغنية، ومن صالحها سياسياً إلقاء اللوم على إسرائيل وحدها، ولكن مع اتضاح الدور الأميركي في العملية، فإن هناك مَن سيعتبرها من أنجح وأخطر العمليات السرية التي تنفذها الاستخبارات الأميركية بعد عملية اغتيال زعيم تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن في العام 2011.
وتكمن الخطورة القصوى لعملية تصفية مغنية في أن تنفيذها جرى في أراضي دولة غير حليفة للولايات المتحدة وهي سورية. ومع أن النظام السوري يناصب الإدارة الأميركية العداء، إلا أن سورية ليست في حالة حرب مع الولايات المتحدة، الأمر الذي يثير تساؤلات قانونية داخل واشنطن ذاتها عن كيفية إجازة مثل هذه العملية، فضلاً عن أن تصنيع أميركيين لعبوة بغرض استخدامها في تفجير الهدف وقتله يثير المزيد من التساؤلات القانونية عن انتهاك إدارة بوش للقانون الدولي الذي يُحرّم تَعمُّد قتل أو جرح العدو.
تفاصيل الاغتيال
أحد المسؤولين السابقين الخمسة الذين استقت الصحيفة الأميركية معلوماتها منهم، أشار إلى أن الولايات المتحدة وإسرائيل كانتا تعلمان ببقاء مغنية فترات طويلة في دمشق منذ أكثر من عام على مقتله، وأن الإسرائيليين هم من اقترحوا على نظرائهم الأميركيين المشاركة في خطة لتصفيته في دمشق.
ويعود سبب العرض الإسرائيلي للأميركيين بالشراكة في العملية، وفق المصدر نفسه، إلى علم الإسرائيليين بأن "سي آي أي" لديها بنية تحتية راسخة في دمشق لجمع المعلومات، وهو ما لا تتمتع به إسرائيل.
لكن الإسرائيليين، طبقاً لما قاله المصدر، اشترطوا في المقابل أن يكونوا هم من يضغط على الزناد أو يشعل فتيل التفجير، لأن الثأر ثأرهم، في حين أن الأميركيين لم يكن يهمهم من يحظى بهذا الفضل بقدر ما كانت تعنيهم رؤية عماد مغنية قتيلاً، بل إن من صالحهم أن يُوجّه "حزب الله" أصابع الاتهام لإسرائيل وليس لأميركا.
وجاءت فكرة الشراكة بين الإسرائيليين والأميركيين في عملية التخلص من مغنية في وقت كان فيه الموساد والوكالة (سي آي أي)، ينسّقان عن كثب لإجهاض الطموحات النووية لكل من إيران وسورية، وأسفر هذا التنسيق عن مساعدة "سي آي أي" لإسرائيل في قصف مرافق ومنشآت سورية عام 2007 يشتبه بأنها كانت نواة لمشروع نووي سوري.
وعندما تم التأكد من وجود مغنية في دمشق، اشترك الطرفان في مراقبته ومعرفة نمط حياته والنسق الذي يسير عليه والأماكن التي يتكرر تردده عليها.
في البداية، اقترح الإسرائيليون تصفية مغنية خلال الأوقات التي يمشي فيها وحيداً بعيداً عن مرافقيه، ولكن ضباط الوكالة قرروا أن الطريقة المثلى تبدأ بتأمين سكن آمن في مبنى قريب من الشقة التي يقيم فيها مغنية للمزيد من الدقة في الرصد والتنفيذ. واقترح الإسرائيليون بعد ذلك تنفيذ العملية عن طريق وضع قنبلة على دراجة هوائية أو نارية، وهو ما رفضه الأميركيون تحت مبرر أن الانفجار قد يؤدي إلى حدوث خسائر جانبية غير محسوبة. وأخذ الأميركيون وقتهم في اجراء الاختبارات على النمط الخاص من العبوة المستخدمة لاحقاً لتجنّب سقوط ضحايا أبرياء، لا سيما أن المكان الذي اختير لتنفيذ العملية كان قريباً من مدرسة للبنات.
وبعد أن توصّل المخططون للعملية إلى أن المتفجرة التي سيتم استخدامها لن تُصيب أو تقتل أحداً غير الهدف المقصود، قالت بعض المصادر إن الوكالة الأميركية تراجعت أكثر من مرة في قتل مغنية لأن الرقابة عليه ورصد تحركاته كانت تشير قبيل تنفيذ العملية إلى أن هناك من هو معه أو يتحادث إليه. وعلى سبيل المثال كانت هناك فرص سانحة لقتله مع قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني حينما كانا يمشيان سويّاً في الحي الذي يقطن مغنية فيه.
ووفق أحد المصادر، فالمنفذان لم يكن لديهما التفويض القانوني لقتل سليماني، مع أن إسرائيل تعتبره عدواً رئيسياً لها، كما تتهمه واشنطن بتدريب ميليشيات معادية لجنودها في العراق. وضاعت الفرصة حينها لأن الجهات المتآمرة لم تتمكن من الوصول سريعاً إلى بوش للحصول على موافقة بالتنفيذ.
ولتجنّب الخسائر الجانبية أو سقوط ضحايا أبرياء، حسب زعم مصادر الصحيفة الأميركية، فقد تم استخدام تقنيات حديثة جداً للتعرّف إلى الوجوه والتأكد من هوية عماد مغنية قبل قتله، وكان ذلك بعد خروجه ليلاً من أحد مطاعم الحي الذي كان يقطن فيه، أي قبل لحظات من تفجير القنبلة، التي أكدت المصادر الأميركية أنها وُضعت في إطار عجلة احتياطي مُعلّق في الجزء الخلفي من سيارة ذات دفع رباعي.
وحسب رواية المصادر الأميركية، فقد تم إشعال فتيل الانفجار لحظة اقتراب مغنية من السيارة عن طريق جهاز للتحكّم عن بُعْد يُدار من تل أبيب بواسطة الموساد. وأدى الاشتعال إلى انفجار القنبلة الأميركية مرسلة موجة قوية من الشظايا عبر دائرة قطرها ضيق جداً يكفي فقط لتصفية الهدف الذي قُتل على الفور ولا يصيب من هو بعيد بأي سوء.
أما عن مبررات قتل مغنية، فردّ مسؤولون أميركيون سابقون، عبر "واشنطن بوست"، تورط الولايات المتحدة بأن مغنية كان مسؤولاً بشكل مباشر عن تدريب وتسليح ميليشيات في العراق دأبت على استهداف الجنود الأميركيين هناك. وأضاف هؤلاء بأن هذا المبرر هو الذي استخدمته الاستخبارات الأميركية للحصول على تفويض من إدارة بوش لتصفية مغنية باعتبار أنه ما زال مصدر تهديد لحياة الأميركيين.