كزانتزاكيس في مصر.. قارئاً فنجان الشرق الدامي

21 ديسمبر 2019
مدخل قلعة القاهرة، 1849(Getty)
+ الخط -

تقدم رحلة الكاتب اليوناني نيكوس كزانتزاكيس إلى مصر والتي صدرت في كتاب بالعربية بعنوان "رحلة إلى مصر، الوادي وسيناء"، ترجمة محمد الظاهر ومنية سمارة، ضمن سلسلة كتاب أدب ونقد في عام 1991، تقدم صورة وثيقة الصلة بالعالم الواسع والأفق المعرفي المفتوح لصاحب الرحلة التي قام بها بُعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وبداية بوادر صراع محموم في منطقة الشرق الأوسط، خصوصا في فلسطين، حيث سيعمل البريطانيون على بذل قصارى جهدهم من أجل دعم الحركة الصهيونية.

وبالتالي فرحلة كزانتزاكيس إلى هذه المنطقة الملتهبة من العالم، تأتي في سياق مسلسل طويل من رحلات قام بها غيره من بريطانيين وأميركيين وفرنسيين وهولنديين وإيطاليين وإسبان إلى فلسطين، وقد كان المسكوت عنه في هذه الرحلات هو جمع أكبر قدر من الشواهد على يهودية فلسطين، في سياق حملة عالمية تؤطرها الدول الداعمة للحركة الصهيونية، إما بشكل مباشر كما هو حال وعد بلفور المشؤوم، أو بشكل غير مباشر، كما هو أمر البعثات الصحافية والإعلامية، ومنها رحلة صاحب "زوربا اليوناني".

في رحلته إلى مصر التي قام بها كزانتزاكيس بين عامي 1926 و1927 لفائدة صحيفة يونانية مولت تكاليف رحلته، التي زار فيها فلسطين أولا، ثم بعد ذلك مصر، تفاصيل لا يقدر على سبرها إلا كاتب كبير من عياره.

وربما لم تغادره أبدا مصر وسيناء ومناخاتها الفرعونية، فقد برزت وتصادت ظلالها في العديد من أعماله، وقد عاد إلى هذه الفضاءات في سيرته الذاتية "تقرير إلى غريكو" ليبث فيها أشواقه إلى هذا الشرق الساحر والعظيم.


هبة النيل

يهتز كزانتزاكيس لمنظر النيل، يكتب "حين اقتربنا، أخيرا من منطقة الخلجان الواسعة للنيل والبحر، منطقة الدلتا، البقعة الخضراء العظيمة، كما كانت تسمى في الهيروغليفية، كانت تلك البقعة على وشك استعادة خضرتها، وكانت الأغنية القديمة التي حفظت لنا من زمن الفراعنة، تتغلغل إلى شغاف قلبي.

نحن مغمورون، شئنا أم أبينا، بهذا القلق المرعب لأزمنتنا، ومن المستحيل الآن على أي كائن حي أن يرتحل وهو خالي البال كسائح، إذاً، ما هي القيمة المباشرة للأهرامات والمومياءات الذهبية ومعابد الكرنك العملاقة، وتماثيل الملوك المصنوعة من الغرانيت.

ما قيمة كل ذلك بالنسبة لنا؟ وكيف يمكن لنا أن نتوقع أن تتملكنا الرغبة في الاستمتاع بتلك البساطة، دون أن ننظر بدهشة وحيرة إلى هاتين الحليتين الرائعتين اللتين تزينان هذه الأماكن، وهما النخلة والجمل؟

وفي ليل الصحراء، تمددت قرب النار، وأنا أحاول الاستماع إلى آلاف الأنفاس الغامضة الغنائية للبرية، كل هذه الأصوات الرومانسية كانت ضائعة في لجة أصوات المدينة المأهولة المعبة، التي انغرست في أعماق قلبي قبل أن أنطلق".

ويضيف بتلك اللغة التي تشبه ضربة فرشاة رسام على القماش "وهكذا، فإنني اليوم، وأنا أنظر إلى مجرى النيل العميق المنخفض والخصب، أجد نفسي أفكر فجأة، وبلا إرادة، بالتخلي عن كل التصورات السابقة حول الجواهر الذهبية، والألوان، والراقصين المصريين الشباب، والفراعنة المنتصرين، والآلهة العظيمة، وكنت أسمع صوتا ينبثق من الرجال، مثل صوت الفلاح، صوت حاد ورتيب، صرخة مرعبة أزلية، معاصرة لشاعر كادح مجهول من ممفيس: لقد رأيت! رأيت! رأيت، رأيت الحدادين أمام النار وقد تجعدت أصابعهم مثل جلد التمساح، وانبعثت منها رائحة بيض السمك.

رأيت المزارعين بآلامهم المبرحة في الحقول، وهم يواصلون العمل في الليل، في الوقت الذي يتوجب عليهم فيه أن يخلدوا للراحة. رأيت الحلاق وهو يقص الشعر طوال النهار، يتنقل من بيت لآخر، بحثا عن الزبائن وهو يبلي يديه من أجل ملء معدته..".

ويمضي عميقا في سرد ما رآه، وما تحسسه في مصر، رؤيا تشبه النغم المعذب حيث الآلاف من الناس يكدحون في يومهم ثم يولون مع نهاية النهار إلى بيوتهم، وحين تطلع شمس نهار يوم جديد، تبدأ حلقة أخرى من تلك الدائرة الأزلية التي عاش فيها الإنسان من الفرعون إلى عهد الخديوي.

وفي كل هذا، لا ينفك النيل، نهر مصر الخالد، عن العطاء، والوهب، وهب الحياة والأمل والروح لهذه البلاد، مخترقا الرمال الصحراوية الرمادية والمترامية والسهول والصخور التي نحتها النهر، وحيث أنواع كثيرة من الطيور تعتاش وتحيا على هذا الشريان الحي كما البشر. يكتب "الرجال نحيلون، والنسوة تتدلى الأقراط من أنوفهن والأطفال يتمرغون في الوحل ويأكلون قصب السكر.

وحين تغرب الشمس، تشوب الجبال عبر الطريق، حمرة خفيفة، وتعبر الجمال بأعناقها التي تتمايل ببطء، ويسحب الفلاحون دلاءهم، ليرووا الأرض وهم يغنون، حيث يبدو الكل مسالما وقانعا، ولا ينقصهم شيء سوى قلب رومانسي كي يخدع بهذه الدعة والسكينة.

لكن خلف قناع الوداعة هذه، أستطيع تمييز ذلك الوجه الحزين المكافح لمصر. فعلى طول ذلك الشريط الضيق الذي يزهر بالخضرة وسط الصحراء البغيضة، هناك معركة مرعبة لا تنتهي بين الماء والإنسان، فلو توقف هذا الصراع للحظة واحدة فقط، فإن كل ما يزين هذه الأرض من أشجار وطيور وناس، سوف يُغمر تحت رمال الصحراء، فمصر ليست بهذه السهولة التي وصفها بها هيرودوت، حين قال إنها هبة النيل، إنها هذا الأجر الكبير والصعب التي أصر إله مصر العظيم أن يمنحه للإنسان، فالفلاحون ومنذ آلاف السنين يكدحون ليل نهار، ويناضلون من أجل ترويض قوة الآلة الوحشية المتهورة. فقد خلق طوفانه بنفسه بشكل متناغم وأطل بطلته المليحة، وخلق مصر".

يخلع كزانتزاكيس على النيل رداء أسطوريا، فمنابعه سرية حتى وإن كانت معلومة، وهو أشبه بالسر الإلهي، وفي الأسطورة أن ثلاثة رجال أقسموا أن يكتشفوا منابعه السرية، وحين أبحروا في سبيل ذلك، مات الرجل الأول، وبعد عشر سنوات مات الرجل الثاني.

"وحين أصبح عمر الرجل الثالث مائة عام، استلقى في قاربه مثل المومياء، استعدادا للموت، لكن صوتا انبثق من الماء، وهمس له في أذنه ليواسيه: مبارك أنت، لأنك الوحيد من بين كل الرجال الذي رأى أغلب الماء.

مبارك أنت لأنك الآن ستنحدر نحو الحادس، (مثوى الأموات في الميثولوجيا الإغريقية)، وأنك ستعثر على منابعي التي كنت تناضل وتجاهد من أجل الوصول إليها".


مديح فرعوني

يكيل كزانتزاكيس المديح لأرض مصر، لقد أبهره المجال الجديد الذي جاءه، حتى وهو ابن الأسطورة الإغريقية، يكتب "أنا لم أشعر بمثل هذا الإحساس في أي مكان على هذه الأرض، الإحساس بالعنف ولذة التواصل بين الحياة والموت. لقد اعتاد المصريون القدماء على وضع المومياءات في صدر قاعات الطعام من أجل النظر إلى الموت، من أجل تقوية وعيهم بحياتهم القصيرة تقول إحدى أغانيهم القديمة، التي حفظت على ورق البرشمان (ورق نفيس شبيه بالرقوق):

"تمتع بكل يوم. ادهن جسدك بالعطور،
واجعل أنفك يتشمم الروائح العطرة،
واعقد باقة من اللوتس على حنجرتك، ولجسد المحبوب
الجالس بالقرب منك.
اسع لملاهيك الآنية، واهرب من متاعبك
ومسؤولياتك، حتى تأزف الساعة التي سيأخذونك
فيها إلى ذلك المكان الهادئ الذي تحب،
وتذكر: لا أحد يمكنه الرجوع من هذا المكان، أبدا".


قوانين الماء

تبدو الرحلة افتتانا لا يحد بالنيل وبالفلاحين وبهذا المناخ الفرعوني من قبل كزانتزاكيس، يكتب "وجدت هذه الكلمات على أحد الأهرامات قبل حوالي ثلاثة آلاف سنة من ميلاد المسيح: أولئك الذين يدينون بالفضل للنيل يرتعدون، لكن الحقول تضحك، وضفاف النهر تزهر، وتحدر قرابين الآلهة من السماء. إن قلب الآلهة يرقص فرحا".

ويعتقد كزانتزاكيس أنه وتبعا لذلك، فإن النيل لا يورث الخيرات والحيوانات والأشجار المثمرة وغير المثمرة، ولكنه أيضا، يورّث القوانين، ومنها قوانين الطبيعة، فعندما يفيض لا يحمل معه فقط هذه الخيرات، ولكنه يحمل الموت والدمار أيضا، ويجلب الطوفان، حين لا يستطيع البشر السيطرة عليه، وبالتالي، فلا مهرب من الخضوع للقوانين، وعلى رأسها التنظيم والعمل والجماعي من أجل تطويعه.

لذلك، يصبح لزاما على المصري الذي يعيش من هبة النيل أن يخضع نفسه لنوع من التجمع أو التكتل، ومن هنا أتت معرفتهم بأنظمة الري وبباقي العلوم التي تطورت، كضرورة للعيش والحياة في هذه البقعة، وبالتالي أصبح النيل، كسلطة، سببا في "خلق القانون" في مصر، مع ما استتبع ذلك من ظهور التجمعات البشرية والفوارق الطبقية.

وربما لا يكون هذا مقتصرا على مصر، بل على كل البلدان النهرية التي تعيش من أنهارها، وهي خصائص مشتركة بكل تأكيد للمجتمعات الزراعية.


صراع دراماتيكي في المنطقة

لا شك في أن بين مصر الفرعونية ومصر الحديثة مسافة مهولة، هي مسافة التاريخ نفسه، أو أبعد من ذلك بكثير. وحين عاد كزانتزاكيس من رحلة إلى الدلتا العليا ومن المعابد الفرعونية إلى القاهرة الحديثة، اكتشف مصريين آخرين، هم أبناء زمنهم، دون أن يتخلوا عن هذا الإرث الكبير الذي يستقر في أعماق الأودية وبطون الرمال وفي الذاكرة، وبين تحديات الحياة المعاصرة.

إنها حياة جديدة، لا يحكمها النيل بقوانينه وحدها، بل تحكمها الحياة المعاصرة بكل تحدياتها، ومصير مصر ومستقبلها في ظل هذه التحديات، وهي كبيرة وكثيرة، يكتب "لقد عدت إلى القاهرة، إلى القلب النابض بالحيوية في مصر الحديثة، وكنت أنطلق من الصباح حتى المساء، لأرى رجال المال، ورجال السياسة، ورجال الصحافة، المثقفين. إنهم رجال متحمسون، ماكرون، وطنيون، وماهرون في التحايل.

وقد حاولت أن أطلع على الأمور بقدر ما أستطيع. ما هي الدوافع التي يتذرعون بها لإعادة انبعاث مصر الحديثة؟ كيف يستطيع العقل الشرقي أن يهضم ويتمثل الأفكار الأوروبية؟ والأهم من ذلك، من الذي ستتركه حمى ما بعد الحرب على ضفاف النيل، وما هي الصلة والعلاقة بين هذا الأمر، وبين الحقيقة الواقعية الرهيبة والجهولة لعصرها، ألا وهي حقيقة استيقاظ الشعوب الشرقية؟
إن كل آسيا، الصين، سيام، الهند، الجزيرة العربية، سورية، فلسطين، وتركيا، هذه البلاد كلها في حالة مخاض وكل شمال أفريقيا تستيقظ هي الأخرى، وكل البنى الاستعمارية الأوروبية تتزلزل. إذن، ما هو دور مصر الخاص في هذا النهوض الخطر والمصيري في العالم الشرقي؟

لقد كنت أتحدث مع مثقف مصري متميز، فقال لي: إذا أردت أن تفهم مصر اليوم، يتوجب عليك أن تضع في تصورك بشكل واضح، أن تاريخ مصر الحديث ينقسم إلى مرحلتين أساسيتين، من محمد علي حتى الحرب الأوروبية، ومن الحرب الأوروبية حتى الوقت الحاضر.
محمد علي هو الأب الشرعي لمصر اليوم، إنه رجل ألباني ولد في "كافالا"، وقدم نفسه كموظف في مصر، ثم أصبح باشا في عام 1805، وقد واتته الفرصة أثناء ضعف الدولة التركية عام 1830، ونجح في تحقيق حكم ذاتي موسع لمصر.

كان يمتلك روحا عظيمة، وعقلا متنورا، ففتح مصر للحضارة الأوروبية، ودعا مخططين ومنظمين أجانب، فأعاد بناء الجيش، ونظم التعليم والزراعة، وأرسل مبعوثين مصريين من الشباب ليدرسوا، لقد بعث نفسا جديدا ديناميكيا في حياة وأرض مصر. محمد علي هو "بيتر العظيم" بالنسبة لمصر".

يصل كزانتزاكيس من خلال محاورته مع المثقف المصري، إلى خلاصة أن فرصة العالم الشرقي ستعود عليه، كما انطلقت منه، وأن هذه البذرة ستنبت من جديد، ولكنه سيكون صراعا دراماتيكيا يختزن الجنون والنيران، وهو هنا يقرأ بعمق ما خلفته الحرب العالمية الأولى من دمار على ملايين الفلاحين في مصر، الذين جرى إرسال أكثر من مليون منهم إلى الحرب، التي شردتهم ومزقتهم وأبعدتهم عن أرضهم..

ولذلك يرى أن المنطقة لن تنجو في المستقبل من مثل هذه الاضطرابات، قبل أن تأفل الحضارة الأوروبية ويعود المشعل إلى الشرق.

دلالات
المساهمون