كراتين الاستفتاء والشعب المصري

24 ابريل 2019
واقع مؤلم يعيشه المصريون في الوقت الحاضر(Getty)
+ الخط -

تعددت المشاهد المحبطة في مسرحية تعديل الدستور المصري، بدءاً من مشهد الإعلام، الذي لم يستحِ من الترويج لرسائل جاءت في أغلبها مناقضة تماماً لما تم الترويج له بواسطة الأشخاص أنفسهم، خلال السنوات الخمس الماضية، ومروراً برموز السلطتين التشريعية والقضائية، الذين جندوا أنفسهم من أجل تمرير تلك التعديلات في أسرع وقت ممكن.

وكذلك رأس السلطة التنفيذية، الذي تمهد تلك التعديلات لبقائه في السلطة حتى عام 2030، وتزيد من سيطرته والجيش على مقاليد الحكم، بالإضافة إلى هيمنته على التعيينات في جهاتٍ يفترض أنها تراقب أداءه، ليُخلف وعوده السابقة بالالتزام بمدتين رئاسيتين فقط، لا يزيد كل منهما عن أربع سنوات.

لكن المؤكد أن أقسى تلك المشاهد، وأشدها إيلاماً وإحباطاً، كان مشهد الرقص الفج أمام مراكز الاقتراع، والتكالب على الحصول على كرتونة (صندوق) السلع الغذائية، المشهورة باسم "كرتونة الزيت والسكر".

حتى أن صحيفة نيويورك تايمز نقلت عن بعض من التقتهم من المواطنين قولهم إنهم لا يعرفون شيئاً عن تعديلات الدستور، وإنما جاؤوا للحصول على "كرتونة الزيت والسكر".

وقالت فيفيان يي، الصحافية التي كتبت الموضوع إنها رأت المواطنين يصطفون في طوابير للحصول على كوبونات يمكنهم استبدالها بعد التصويت بمبلغ 200 جنيه، أو ما يعادل أقل من 12 دولاراً. المعنى نفسه نقلته صحف عالمية أخرى، مثل وول ستريت جورنال الأميركية، وغيرها كثير.

هذان المشهدان يعبران عن واقع مؤلم يعيشه المصريون في الوقت الحاضر، بعد سلسلة من الإجراءات التقشفية تحت عنوان الإصلاح الاقتصادي، ألغت الجزء الأكبر من دعم الخبز والوقود والماء والكهرباء والغاز، وبعد تعويم للجنيه، تسبب في انخفاض معيشة أكثر من 90 بالمائة من الشعب، وضياع نسب كبيرة من ثرواتهم وممتلكاتهم، وبعد توسع في اقتراض بلا قيود، أدى بحمله الثقيل إلى حرمانهم من استثمارات كانت مطلوبة لتحسين مستويات متردية من التعليم والصحة والصرف الصحي والبحث العلمي.

حقيقة لا ألوم أيا من أفراد الشعب الذين رقصوا أمام مراكز الاقتراع، أو تكالبوا على صندوق صغير، يساعدهم على سد جوع أبنائهم أو آبائهم، وإنما ألوم من تسبب في وصولهم إلى هذه الدرجة من البؤس، بفعل قرارات اقتصادية غير سليمة، وغير مبنية على دراسات جدوى يعتد بها، ولا تضع مصلحة المواطن في أولوياتها، وإنما تعمل على إرضاء جهات خارجية، تساعدهم على الاستمرار في الحكم!

ألوم من اقتطع مليارات الجنيهات من المبالغ التي كان يمكن بها تحسين مستويات معيشة المواطنين، وإصلاح حالهم ومستقبلهم، وفي الوقت نفسه أنفق مليارات الدولارات على صفقات أسلحة، لا تهدف إلا إلى إرضاء بائعيها لضمان تحييدهم، واستمرار الحصول على دعمهم.

ألوم من حرم الشعب من حقوقه، ثم أسبغ عطاياه على جهات أمنية وقضائية واستخباراتية يحتاج إلى ولائها باستمرار، ولا يمكنه البقاء في منصبه أسبوعاً واحداً بدون دعمها.

ألوم من اتخذ قرارات أهدرت احتياطي البلاد من النقد الأجنبي، واضطرتها في مرحلة لاحقة لتعويم العملة المحلية، وما تلاها من دراما، من أجل مشروعات لم تأت بعوائد تذكر للبلاد، رغم وعود المليارات، ليعلن بعد ذلك، دون أي حرج، أن الغرض من المشروع كان معنوياً، من أجل جمع الشعب على مشروع وطني ضخم، قبل أي شيءٍ آخر.

ألوم من سمح للجهات السيادية في الدولة بالتدخل وبلعب دور احتكاري في العديد من نواحي الاقتصاد، الأمر الذي تسبب في إفلاس عشرات الشركات، وإقفال مئات المصانع، وتسريح آلاف العمال، ولم يفكر في ما سيترتب على ذلك من انهيار أخلاقي، وتفكك الأسرة المصرية، وارتفاع معدلات الجريمة، وانتشار الفساد.

ألوم من تصور أن علاج جوانب القصور في الاقتصاد يرتبط بتوفير السلع الغذائية بالمجان، أو بتكلفة مخفضة، لفترات قصيرة، ولم يفكر في تشجيع الإنتاج، أو زيادة الصادرات، أو تطوير الصناعات المصرية في أي مجال، أو حتى الوقوف أمام مافيا الاستيراد، فسمح لعجز الميزان التجاري بالاستمرار بل والاتساع، وليستمر مسلسل توريط مصر في الاقتراض الداخلي والخارجي، ويزداد عبء الديون ويقتطع من موارد الدولة، ويحرم المصريين منها.

ألوم من باع أو شرع في بيع شركات الحكومة، وتسريح آلاف الموظفين، لتخفيف ما يراه عبئاً على ميزانية الدولة، وفي الوقت نفسه استمر في منح الزيادات والعلاوات للفئات التي تسانده، فاستمر عجز الموازنة للدولة كما هو أو زاد، وأصبحنا في ذيل قائمة الدول في خدمات التعليم والصحة. 

ألوم من أغلق كل الأبواب أمام المشاركة المجتمعية والرأي الآخر، وأمام الخبراء والمتخصصين في كل المجالات ممن يرون ما لا يرى، ولم يستمع إلا لمن يدين له بالسمع والطاعة.

وألوم من شرد عشرات الآلاف من الكفاءات خارج مصر، أو داخل سجونها، ليحرم البلاد من إمكانات هائلة كان من الممكن استغلالها لتحسين أداء الاقتصاد، وليقضي هؤلاء جل وقتهم في البحث عن إقامة شرعية في أي بلدٍ يؤويهم، ثم في البحث عن مصدر رزق لهم ولأبنائهم بعد الاستقرار.

وأخيراً، ألوم من فعل كل ذلك، مخوفاً الناس من مصير العراق وسورية، فأوصل الناس إلى هذه الحال، حتى أصبح السودانيون والجزائريون والفنزويليون يثورون على طغاتهم، غير خائفين من مصير العراق وسورية، وإنما هرباً من مصير مصر.

لولا هؤلاء لما رقص أولئك، وما تدافع الآخرون على لقيمات صغيرة، لا تسمن ولا تغني من جوع إلا لساعات قليلة.

وإذا كنا نطالع ليلاً ونهاراً العشرات والمئات، من رجال الإعلام وقيادات الدولة العميقة، ممن يرقصون على الحبال، رغم أنهم يحصلون على الملايين، فلا نتعجب إذا وجدنا غيرهم، ممن لا يجدون ثمن رغيف العيش، يرقصون على الأرض ويقبلون الصور، طمعاً في وجبة أو كرتونة.
المساهمون