كتاب الديكتاتورية الموحّد

17 نوفمبر 2019
+ الخط -
تظهر تصرفات السلطات التي تواجه تحركات احتجاجية أن هناك كتاباً موحداً يجري النقل عنه لمواجهة الغضب الشعبي، فإضافة إلى القمع، بوسائله المختلفة، يبدو أن هناك شبه إجماع على أن تجاهل الوضع الراهن هو خير وسيلة لإخضاعه، على اعتبار أن الملل لا بد أن يتسلل إلى نفوس المحتجين، وأن ييأسوا من أي محاولة للتغيير. الأمر هذا نراه بوضوح في العراق ولبنان، وبدرجة أقل في الجزائر التي لا يبدو فيها أن كل الأصوات التي تصدح في الشارع رفضاً للانتخابات بصيغتها الحالية تجد آذاناً صاغية لدى السلطات، وها هي ماضية في الانتخابات بالموعد المقرر في الثاني عشر من ديسمبر/ كانون الأول المقبل.
وإذا كان الوضع في الجزائر لبّى، على الأقل، جزءاً من مطالب المحتجين، إنْ لجهة تنحّي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وإلغاء الانتخابات التي كانت مقرّرة في أبريل/ نيسان الماضي، ثم في يوليو/ تموز الماضي، إلا أن الحال في العراق ولبنان لم تصل إلى الحد الأدنى من تحقيق المطالب أو محاولة استرضاء الشارع، وإنْ بإجراءاتٍ يمكن القول عنها إنها شكلية. فها هو رئيس الحكومة العراقي، عادل عبد المهدي، ومعه مختلف أطراف الطبقة السياسية، يكيلون الوعد تلو الآخر، ثم ما يلبثون يتراجعون عنه، فقد كان الحديث بداية عن استقالة عبد المهدي والبحث عن بديل، إلا أن الحسابات السياسية الداخلية والإقليمية أعادت الوضع إلى المربع الأول، وبات عبد المهدي يتحدّث باعتباره رمز الإصلاح في البلاد، من دون أن ينسى الدفاع عن إجرام المؤسسة الأمنية الذي أسقط أكثر من 300 قتيل.
الأمر مشابهٌ، إلى حد كبير، ما يجري في لبنان حالياً، فكل مطالب المحتجين الخاصة بإسقاط الطبقة الحاكمة، أو على الأقل البدء بتشكيل طبقة جديدة عبر قانون انتخابي خارج القيد الطائفي، لم تجد أي أصداء لدى الطبقة السياسية الحالية، والتي لا تزال تتعامل بإنكار مع الحركة الشعبية في البلاد. وإذا كانت استقالة رئيس الحكومة، سعد الحريري، من منصبه فسّرت على أنها جاءت تلبية لرغبة الشارع، إلا أن المعطيات اللاحقة أوضحت أن الاستقالة جاءت في إطار تصفية حساباتٍ داخليةٍ بين الحريري وحلفاء الضرورة من الأحزاب الحاكمة في لبنان. الأمر الذي فسّرته محاولات هؤلاء "الحلفاء" استرضاء الحريري، وإعادته إلى رئاسة الحكومة، لكن الأخير لم يتمكّن من تحسين شروط التفاوض الخاصة به، فاعتذر مجدّداً. الأنكى أن هذه الطبقة السياسية لم تجهد لمحاولة تقديم شخصية "إصلاحية"، ولو صورياً، لتولي الحكومة الجديدة، وتصوّر ذلك على أنه محاولة لتلبية المطالب الشعبية، بل زادت من عملية تجاهل الشارع عبر الدفع بمرشح من داخل الطبقة الحاكمة ليكون بديلاً للحريري، على الرغم من شبهات فساد كبيرة تدور حوله. الأمر الذي من شأنه أن يزيد الغضب الشعبي على المدى القريب، وهو ما بدأت السلطات مواجهته بالقمع الأمني، المحدود إلى حد الآن.
الحالات العراقية واللبنانية والجزائرية يمكن قياسها على بعض الأمثلة المشابهة في الموجة الأولى من الربيع العربي، حين تجاهل زين العابدين بن علي وحسني مبارك المطالب الاحتجاجية، وحاولا تقديم "إصلاحات صورية" لاحتواء الغضب الشعبي، ولكنها كانت إجراءات زادت من حدة هذا الغضب، وأدت، في النهاية، بالتضافر مع عناصر أخرى، إلى إسقاط هذين النظامين. ما يحصل اليوم في لبنان والعراق متشابهٌ إلى حد كبير، فالاستفزاز مستمر من النظامين للمحتجين، ما يدل على أن كل هذه الأنظمة تقرأ من الكتاب الديكتاتوري نفسه، لكن هناك من يعوّل منها على المعطيات الداخلية الأخرى التي تحمي النظام وتعصمه من السقوط، وهو الأمر القائم في العراق ولبنان، إذ هناك قوى أساسية لا تزال متمسّكة ببقاء هذين النظامين، وأيضاً وفق الكتاب نفسه، والذي يتمحور بالأساس على حماية مصالح الطبقة الحاكمة ومن يدور في فلكها.
حسام كنفاني
حسام كنفاني
صحافي لبناني، يشغل حاليًا منصب مدير قطاع الإعلام في فضاءات ميديا، له منشورات في عدّة صحف لبنانية وعربية. يعمل في مجال الصحافة منذ أكثر من 25 عامًا، وهو من مؤسّسي موقع وصحيفة "العربي الجديد".