قناع السلطة

09 يوليو 2017
مقطع من عمل تركيبي لـ روبارت راوشنبرغ
+ الخط -

حين يبتسم لك هنا عابر سبيل ما أن تلتقي عيناك بعينيه، يلحّ عليك السؤال الذي ينام ويصحو في ذهنك منذ زمن بعيد، السؤال الذي نشأ في مكان صار بعيداً أيضاً، إذن ما سر قناع السلطة المنتشر في تلك المدينة؟

في مساء، ككل مساء هناك، سيطر هواء مختلف في المكان، ظهر ذلك في انكسار العيون وفي ابتسامات الخوف وإشارات التملّق، وفي خفوت الضجيج واضطراب حركة النادلَين. حدث ذلك حين وقف في باب المقهى رجل خمسيني، راح ينظر في الوجوه بعيون فاترة وفم مسترخ. لا تدلّ هيأته على حال مميزة، جسم نحيل مائل إلى القصر، شعر خفيف سائب، وجه مهمل وغير حليق، كرش رخوة، لباس متهدّل وقليل النظافة. لا يلفت نظرك في شيء، لولا ذلك الاستخفاف اللامحدود في عينيه.

لحظات ثقيلة، ثم على غير توقع من النفوس العاجزة، استدار الرجل ومشى مبتعداً دون أن تفتر نظرة الازدراء في عينيه. كأنه اكتفى بما رآه من انكسار في العيون، فاطمأن إلى سطوته ومضى.

تتناسب كثافة سلطة ذاك الحضور مع كثافة عجز الحاضرين. هذه علاقة أخذت وقتها، بلا شك، قبل أن تترسخ على هذا النحو المريض. سلطة فائضة لا ترتوي، تبحث عن موضوعها. سلطة مطمئنة إلى تفوقها ولا تحتاج إلى أية مكمّلات أو ديكورات. إرادة تامة للتعدي مقابل انعدام تام لإرادة المقاومة.

هذه السلطة الكثيفة المُشبعة لا تحتاج إلى أكسسوارات أو مظاهر، لكنها باتت مظهراً يتوسّله من لا سلطة فعلية له، يتوسّله من يريد أن يوهم غيره بأنه أحد امتدادات السلطة ومنافذها العديدة والوافرة في المدينة. في الشوارع، في المحلات، على الشواطئ، على المزارات، في المدارس، وفي الجامعات.

لكي تحاول الهرب من أن تكون موضوعاً لسلطة غير مقيّدة، جرّب أن توحي للآخرين أنك ذو سلطة، وقادر على إيذائهم، جرّب أن تضع على وجهك تعبير الاستهانة بالآخرين، فقد يفوز بالهيبة من يجيد تلك النظرة الجاهزة بالطبع للتحوّل إلى نقيضها حين تواجه استهانةً أعلى. "لا تركع الاستهانة إلا لاستهانة أشد منها".

صغار التسلّطيين، والمحرومون من تسلّط يطمحون إليه، والخائفون من الوقوع ضحية تسلط الآخرين، الجميع يحاول أن يتقمّص الرجل الخمسيني الذي غيّر هواء المكان بمجرد وقوفه للحظات في باب المقهى.

في الأماكن العامة، وأمام الناس المغفلين، وحيث يمكن الاطمئنان إلى أن لا أحد من "الأقوياء" موجود، يمكن للمساكين أن يضعوا قناع السلطة، وأن يحاولوا إيهام الآخرين أنهم ليسوا مساكين مثلهم، ليسوا عاديين، وإن وراء نظرتهم تلك مسارب فعلية تفضي إلى مكامن السلطة.

استسلام المدينة جعل الناس ينقسمون إلى أصحاب سلطة ومواضيع سلطة. السلطة التي غدت تعني القدرة على التعدي. خرجت السلطة هناك من مساراتها المحددة وانداحت وأفسدت ما عداها من مسارات حياة المدينة.

حين تلتقي عيناك صدفة بعينين لا تعرفهما وأنت في سوق أو مكان عام، قد تتعرض في الحال للنظرة المستخفّة إياها، تقول لك بلغة متعالية غير محكية: من أنت! جملة صامتة قصيرة تضمر طائفة كاملة من الجمل التي كثرت في لغة المدينة، والتي تحاول ترجمة التعالي لغوياً. طائفة من الجمل التي تنطوي على معنى واحد هو التهديد بالأذى.

كنوع من الدفاع عن النفس، يتقمّص الأفراد شخصية المعتدي حين يغيب. في هذا تعبير صريح عن الاستسلام له والإعجاب به. إذا كان أهل المدينة عاجزين عن صد المعتدي الذي يستند إلى سلطة لا يستطيعون ردّها، ألم يكن ممكناً سلوك السبيل الذي يجعل من المعتدي محاصراً بجو من احتقار الاعتداء؟ ألم يكن ممكناً محاصرة نظرة التسلط بالابتسام وسماحة الوجه بدلاً من تقليدها والاجتهاد في خداع الآخرين بها؟

شكّل قناع السلطة، إلى حد ما، بديلاً عن المسدس الذي كان يوضع ظاهراً على الخصر لكي يعلن بصمت عن هوية صاحبة، ما يجعل الآخرين "يلزمون حدودهم" معه، ويتيح له "تجاوز حدوده" معهم.

الفارق أن أصحاب المسدسات متضامنون ويميزهم عن "الآخرين" حد واضح، فيما أصحاب قناع السلطة متعادون ولا يوجد حد يميز بينهم، كلهم مساكين ومواضيع للسلطة الفعلية. أصحاب المسدسات يحمون السلطة في وجه المجتمع، فيما يعمل أصحاب قناع السلطة على تفتيت المجتمع.

قناع السلطة يستمد استمراريته من قوة السلطة غير المقنّعة في المجتمع، كما يستمد التقليد قوته من صلابة الاصل. وتستمد السلطة الفعلية غير المقنعة استمرارية جديدة من شيوع قناع السلطة. علاقة تعايش ظالمة بين طرفين غير متعادلين، أصحاب قناع السلطة المفتعلة يحمون صاحب السلطة الفعلية الذي لا يكذب حين يفتك بهم.

المساهمون