31 أكتوبر 2024
قمة هلسنكي ودور إيران في سورية
منذ سنوات، لم يكن للولايات المتحدة الأميركية تصور مستقل يتعلق بالموضوع السوري المتفجر، ما خلا "استراتيجية" الخلاص من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وكانت "الاستراتيجية" الأساس الذي قامت عليه العلاقات الأميركية مع بقية القوى المتصارعة في سورية، لا سيما مع القوات الكردية شمال سورية وشمال شرقها. عدا ذلك، اقتصر الدور الأميركي على العرقلة والمقايضة والصورة الإعلامية التي تطلبت رشقات صاروخية، حين كانت تعلو رائحة السلاح الكيميائي عن الحد الذي يمكن السكوت عنه. ولم يكن الدور الأوروبي، المرهون لهواجس اللجوء ومحاربة غزو الإرهاب لدول القارة العجوز، أفضل حالاً، بل ظل، في الغالب، دوراً تابعاً لمتبوعه الأميركي. هذا ما جعل الدور الروسي الإيراني أكثر فاعلية، وجعله يفرض إيقاعه على جميع الأطراف. هنا يوجد حلفٌ يمتلك، إلى جانب القوة، وضوح الهدف، وهناك حلفٌ يمتلك القوة، وهي، فوق ذلك، قوة متفوقة في الواقع، لكنها بلا هدف واضح، الأمر الذي جعله تابعاً للحلف الأول، أو معرقلاً له في أفضل حال. على هذا، يمكن القول إن الحلف الأول "داعم لنظام الأسد"، ولكن لا يمكن القول إن الحلف الثاني داعم لتغيير هذا النظام، وهذا من أهم العناصر التي صنعت الفرق في مسار الصراع السوري.
على هذا، يمكن القول إن لدى الرئيس الروسي، بوتين، في القمة المرتقبة له مع الرئيس الأميركي، ترامب، في هلسنكي بعد غد (16 يوليو/ تموز)، شيئا استراتيجيا يقوله بوضوح حيال الموضوع السوري، فيما ليس لدى ترامب سوى المطالبة بترتيباتٍ أقل أهمية بكثير. سيقول بوتين إنه يريد هزيمةً تامةً لمعارضي نظام الأسد، وإنه يدعم استمرار هذا النظام كما هو، أو بدستور "معدّل"، لا قيمة فعلية له طالما أن العصب الأساسي للدولة بقي بيد الحلف الأسدي. وسيكتفي ترامب بمطالب تتعلق بشروط انسحاب القوات الأميركية من سورية (من مستوى أن لا يلاحق النظام العناصر المسلحة السورية التي عملت بالتنسيق مع القوات الأميركية بعد انسحاب هذه)، وبضرورة عدم وجود وحدات إيرانية قريبة من الحدود مع إسرائيل والأردن. لم يعد ترامب، ولا حتى إسرائيل، تصر على خروج إيران من كامل سورية، ليس لأنهما توافقان على وجودها، بل بالأحرى لأن من الصعب فرض هذا المطلب، حتى لو أراد الروس ذلك، من دون المغامرة بحرب إقليمية واسعة، لا يريدها ترامب (المنكفئ)، ولا يبدو أن إسرائيل تريدها أيضاً.
مع ذلك، يبقى مشروعا التساؤل عن جدية المطالبة الأميركية والإسرائيلية بخروج إيران الكامل من سورية. ألا يشكل الوجود الإيراني عامل شلل لطاقات التغيير في المجتمع السوري، حين يكون هذا الوجود "التوسعي" محرّضاً دائماً على صراع هوياتي مدمر داخل المجتمع من جهة، وحين يكون، من جهة أخرى، سبباً لاستمرار وجود نظام سياسي بات عبئاً على البلد، وبات التغيير السياسي الذي يمنعه الوجود الإيراني شرطاً لخروج سورية من دائرة الشلل؟ أليس في استمرار الوجود الإيراني إذن ضمانٌ لاستمرار شلل المجتمع السوري؟ أليس هذا ما يخدم
الاستراتيجية الاسرائيلية البعيدة، بمجرد ضمان بعد المليشيات التابعة لإيران عن حدودها؟
من نافل القول إن الطلب الأسدي على الوجود الإيراني في سورية يزداد، كلما يزداد ضعف النظام عسكريا وسياسياً. والحال أن نظام الأسد يعاني عسكرياً من نقصٍ في الموارد البشرية مع تهرّب نسبة كبيرة من "الموالين" من الخدمة الإلزامية، ما يزيد من اعتماده على المليشيات إيرانية الولاء، ويعاني من تراجع حاد في موارده الاقتصادية اللازمة لدعم مجهوده الحربي. وتشير الأرقام إلى تراجع الدخل القومي السوري بنسبة 500% (من 60 إلى 12 مليار دولار). وسياسياً يعاني النظام من نقصٍ حاد في القبول الشعبي، ما يعني نقصاً حادّاً في الشرعية، ذلك أن القبول الشعبي يشكل معيار الشرعية في البلدان التي تفتقد آلية مضطردة لإنتاج الشرعية السياسية.
الخلل العميق في التصور الأميركي والإسرائيلي حيال الوجود الإيراني، أو وجود القوات التابعة لإيران في سورية، يكمن في تجاهل الحقيقة المذكورة آنفاً. من المفارقة الجمع بين المطالبة برحيل إيران عن سورية والقبول ببقاء نظام الأسد الذي لا يقف على قدميه من دون الدعم الإيراني. القبول ببقاء نظام الأسد يقتضي القبول ببقاء وجود إيراني في سورية، ذلك لأنه لا يمكن لروسيا أن تغطّي الدور الذي تفعله إيران في حماية نظام الأسد. تجاهل حقيقة أن خروج إيران من سورية مرهونٌ بتفكيك نظام الأسد يشكل خللاً في التصور الأميركي والإسرائيلي، وهو خللٌ يدركه هؤلاء، ولا شك، لكن استراتيجيتهم تقوم على عدم تجاوز الخلل المذكور، وفق الصيغة التالية: لتبق إيران في سورية بما يخدم استمرار نظام الأسد، ولكن من دون أن يشكل ذلك تهديداً لأمن إسرائيل. والترجمة العملية لهذا الموقف هي المطالبة ببقاء الوحدات التابعة لإيران على بعد 65 كلم مما تراه إسرائيل حدوداً لها، وعلى بعد 25 كلم من الحدود الأردنية.
على هذا، لا يمكن توقع حصول اتفاق روسي أميركي على خروج كامل للقوات الإيرانية من سورية. ما يمكن توقعه، في هذا الخصوص، التزام روسي بمعالجة مخاوف إسرائيل، سواء من وجود إيراني على حدودها، أو من دور إيراني مقلق في جوارها، وهو ما يُتوقع أن يقابله الرضى الأميركي بدور أساسي للروس في ترتيب البيت السوري على مقاس نظامٍ معاق، ومعارضة مستعدة للانحناء بما يكفي للدخول تحت السقف
على هذا، يمكن القول إن لدى الرئيس الروسي، بوتين، في القمة المرتقبة له مع الرئيس الأميركي، ترامب، في هلسنكي بعد غد (16 يوليو/ تموز)، شيئا استراتيجيا يقوله بوضوح حيال الموضوع السوري، فيما ليس لدى ترامب سوى المطالبة بترتيباتٍ أقل أهمية بكثير. سيقول بوتين إنه يريد هزيمةً تامةً لمعارضي نظام الأسد، وإنه يدعم استمرار هذا النظام كما هو، أو بدستور "معدّل"، لا قيمة فعلية له طالما أن العصب الأساسي للدولة بقي بيد الحلف الأسدي. وسيكتفي ترامب بمطالب تتعلق بشروط انسحاب القوات الأميركية من سورية (من مستوى أن لا يلاحق النظام العناصر المسلحة السورية التي عملت بالتنسيق مع القوات الأميركية بعد انسحاب هذه)، وبضرورة عدم وجود وحدات إيرانية قريبة من الحدود مع إسرائيل والأردن. لم يعد ترامب، ولا حتى إسرائيل، تصر على خروج إيران من كامل سورية، ليس لأنهما توافقان على وجودها، بل بالأحرى لأن من الصعب فرض هذا المطلب، حتى لو أراد الروس ذلك، من دون المغامرة بحرب إقليمية واسعة، لا يريدها ترامب (المنكفئ)، ولا يبدو أن إسرائيل تريدها أيضاً.
مع ذلك، يبقى مشروعا التساؤل عن جدية المطالبة الأميركية والإسرائيلية بخروج إيران الكامل من سورية. ألا يشكل الوجود الإيراني عامل شلل لطاقات التغيير في المجتمع السوري، حين يكون هذا الوجود "التوسعي" محرّضاً دائماً على صراع هوياتي مدمر داخل المجتمع من جهة، وحين يكون، من جهة أخرى، سبباً لاستمرار وجود نظام سياسي بات عبئاً على البلد، وبات التغيير السياسي الذي يمنعه الوجود الإيراني شرطاً لخروج سورية من دائرة الشلل؟ أليس في استمرار الوجود الإيراني إذن ضمانٌ لاستمرار شلل المجتمع السوري؟ أليس هذا ما يخدم
من نافل القول إن الطلب الأسدي على الوجود الإيراني في سورية يزداد، كلما يزداد ضعف النظام عسكريا وسياسياً. والحال أن نظام الأسد يعاني عسكرياً من نقصٍ في الموارد البشرية مع تهرّب نسبة كبيرة من "الموالين" من الخدمة الإلزامية، ما يزيد من اعتماده على المليشيات إيرانية الولاء، ويعاني من تراجع حاد في موارده الاقتصادية اللازمة لدعم مجهوده الحربي. وتشير الأرقام إلى تراجع الدخل القومي السوري بنسبة 500% (من 60 إلى 12 مليار دولار). وسياسياً يعاني النظام من نقصٍ حاد في القبول الشعبي، ما يعني نقصاً حادّاً في الشرعية، ذلك أن القبول الشعبي يشكل معيار الشرعية في البلدان التي تفتقد آلية مضطردة لإنتاج الشرعية السياسية.
الخلل العميق في التصور الأميركي والإسرائيلي حيال الوجود الإيراني، أو وجود القوات التابعة لإيران في سورية، يكمن في تجاهل الحقيقة المذكورة آنفاً. من المفارقة الجمع بين المطالبة برحيل إيران عن سورية والقبول ببقاء نظام الأسد الذي لا يقف على قدميه من دون الدعم الإيراني. القبول ببقاء نظام الأسد يقتضي القبول ببقاء وجود إيراني في سورية، ذلك لأنه لا يمكن لروسيا أن تغطّي الدور الذي تفعله إيران في حماية نظام الأسد. تجاهل حقيقة أن خروج إيران من سورية مرهونٌ بتفكيك نظام الأسد يشكل خللاً في التصور الأميركي والإسرائيلي، وهو خللٌ يدركه هؤلاء، ولا شك، لكن استراتيجيتهم تقوم على عدم تجاوز الخلل المذكور، وفق الصيغة التالية: لتبق إيران في سورية بما يخدم استمرار نظام الأسد، ولكن من دون أن يشكل ذلك تهديداً لأمن إسرائيل. والترجمة العملية لهذا الموقف هي المطالبة ببقاء الوحدات التابعة لإيران على بعد 65 كلم مما تراه إسرائيل حدوداً لها، وعلى بعد 25 كلم من الحدود الأردنية.
على هذا، لا يمكن توقع حصول اتفاق روسي أميركي على خروج كامل للقوات الإيرانية من سورية. ما يمكن توقعه، في هذا الخصوص، التزام روسي بمعالجة مخاوف إسرائيل، سواء من وجود إيراني على حدودها، أو من دور إيراني مقلق في جوارها، وهو ما يُتوقع أن يقابله الرضى الأميركي بدور أساسي للروس في ترتيب البيت السوري على مقاس نظامٍ معاق، ومعارضة مستعدة للانحناء بما يكفي للدخول تحت السقف