تُغادرُ إحدى السيّدات مستشفى دار العجزة الإسلامية في منطقة المدينة الرياضية في العاصمة بيروت سريعاً. كانت قد مسحت دموعها لكن آثارها بقيت واضحة تحت جفونها، وذلك بعد زيارة أحد أقاربها المقيمين هناك. تقعُ المستشفى بين ملعب المدينة الرياضية ومنطقة صبرا الفقيرة، المجاورة لمخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين.
في الداخل، زيّنت المشرفات الاجتماعيات الجدران باللافتات المرحّبة بقدوم شهر الصوم، وإنْ دفع المرض غالبية الضيوف (كما تسمّيهم المشرفات) إلى الإفطار. يتبادل الزوار عند المدخل التهاني بالعيد مع المشرفات المنهمكات بتوزيع بعض الهدايا التي قدمتها مؤسسات خاصة للعجزة. يرتفع صوت بعض المسنّات احتجاجاً على الزحمة وقدوم أشخاص غير مألوفين إلى البهو. لكن إحداهن تعود للابتسام سريعاً بعدما تهمس المشرفة في أذنها مُحاولةً تهدئتها. تشرح المشرفة: "أحياناً نعاملهم كالأطفال"، قبلَ أن تعود إلى توزيع الهدايا.
في الحديقة الداخلية للمستشفى، تقودك أنغام موسيقى غربية إلى طاولة الأستاذ محمد حمزة الذي يتحضّر لمطالعة رواية جديدة بعدما انتهى من الأولى. يضع إلى جانبه راديو من الحجم الصغير ويعدّل مكانه مراراً لالتقاط الموجة بصورة أوضح، وإلى جانبه عصاه التي يتكئ عليها. قرّر حمزة دخول المستشفى والإقامة فيها بشكل دائم قبل 16 سنة بعد تعرّضه لجلطات عدة أدت إلى إصابته بشلل جزئي في أطرافه اليسرى. منذ ذلك التاريخ، يصوم رمضان ويحتفلُ بالعيد في المستشفى إلى جانب باقي النزلاء. لا تترك أسرته أي مناسبة أو عيد إلا تزوره فيها. يقول إنه انضمّ إلى أبنائه ثمانية عشر حفيداً "يزورونني أسبوعياً في المستشفى".
عرف حمزة أجواء العيد في مدينته الأصلية بعلبك (شرق لبنان)، وفي بيروت أيضاً حيث درّس مادة الرياضيات لصفوف الشهادات الرسمية طوال 30 عاماً متنقلاً بين عدد من المدارس. يزوره تلاميذه في المستشفى لمعايدته أو الاطمئنان على صحته بعدما درّسهم لسنوات.
اليوم، يعيش حمزة أجواء العيد في المستشفى، وإن بشكل مختلف. يقول إنه يفتقد لمعايدات جيرانه. تعلو ضحكة الرجل لدى الحديث عن العيدية التي كان يقسمها والده إلى قسمين: الأول للحلاقة وشراء ثياب العيد، والثاني للمصاريف السرية كما كان يسميها.
تغيّر العيد في المستشفى اليوم. صار يقتصر على جولة المسنين، الذين ما زالوا قادرين على الحراك، بين طبقات المبنى لمعايدة جيرانهم الدائمين، فيما تتأجل معايدة المرشدات حتى عودتهن من الإجازة. يؤكد أن العيد الحقيقي هنا في رمضان وليس خلال أيام العيد، لأن الأجواء تكون أجمل بوجود المشرفات اللواتي يرتحن خلال أيام العيد. يتميّز شهر رمضان في المستشفى بالرحلات. يذهب المسنون إلى مراكز الاصطياف والمطاعم والمتنزّهات. لكن الرجل الثمانيني يفضّل البقاء في المستشفى "لأن المشي لمسافات طويلة يُتعبني". يعود حمزة إلى الفصل الأول من روايته الجديدة. فيما تهيّئ فاطمة ناظم، الضيفة الجديدة في المستشفى، نفسها لتمضية عيد الفطر الأول في حياتها بعيداً عن منزلها.
على مدى الأعوام الماضية، أقامت المرأة الفلسطينية هذه في شارع مجاور للمستشفى، ولم يخطر لها يوماً أن تكون نزيلة فيه، على ما تقول. ما زالت ذكريات العيد حاضرة في عقلها. تحكي عنها وكأنها حدثت قبل يوم أو يومين. كانت تسكن قرب مسجد الشهداء في المنطقة، وعايشت أجواء ليالي القدر لسنوات طويلة. تضيف: "كنّا نتبادل التهاني بالعيد على باب المسجد قبل أن نزور المقبرة المجاورة ومعنا الشتول الخضراء لوضعها على قبور أقربائنا، منهم زوجي".
تعود ناظم للحديث عن العيد بعدما تتذكر زوجها. تبدو مرتاحة لأنها ستمضي العيد في المستشفى. تقول إن "رمضاني الأول هنا كان جيداً. استمتعنا بالرحلات". يأتي العيد دافئاً في مستشفى العجزة. يستعيد ضيوفه ذكرياتهم الجميلة خلاله، إلى أن تنتهي إجازة المشرفات وتختفي زينة رمضان ويعود الروتين.
اقرأ أيضاً: العيد ليس لجميع الأطفال في لبنان