وكانت الهيئة التابعة لحزب "الشعوب الديمقراطي"، الجناح السياسي لـ "العمال الكردستاني"، قد عقدت مع الحكومة مؤتمراً صحافياً مشتركاً، يوم السبت، في مقر الحكومة بإسطنبول، ألقى فيه كل من النائب سري ثريا أوندر ممثلاً عن الهيئة ويالجين أكدوغان عن الحكومة، بيانين منفصلين اعتبرا تاريخيين لسببين، أولهما دعوة أوجلان لنزع سلاح العمال الكردستاني، وثانيهما تزامنه مع ذكرى انقلاب العسكر على حكومة نجم الدين أربكان عام 1997.
من ردود الفعل وحجمها، بدا أن الإعلان الأخير لأوجلان "جدّي للغاية"، وهو ما يعزز الآمال بتنفيذ نزع السلاح وتغيير وجهته على الأقل، من مقاتلة "الدولة التركية"، إلى حصره بمحاربة تنظيم "داعش"، وهو ما قد تستفيد منه أنقرة خير استفادة، إذ قد يُحسَب هذا القتال لمصلحتها سياسياً، وهي بذلك أيضاً تتخلص من "فائض" عسكري كردي يدرك العقل التركي الحاكم أنه يستحيل التخلص منه عملياً، إذ إن الحديث يدور عن آلاف المقاتلين الأشداء المنتشرين في مناطقهم وعبر حدود يستحيل ضبطها، وهي حكمة السنوات الثلاثين الماضية على الأقل. كذلك داخلياً، من شأن تطبيق دعوة ــ وعد أوجلان، أن يعني الكثير لنواحي إجراء تغييرات تاريخية في بنية تركيا الدولة والمجتمع والتاريخ، في تعاطي المؤسسة الرسمية مع أكراد البلاد الذين يشكلون ما لا يقل عن 20 في المائة من المواطنين.
إقرأ أيضاً: إعلان تاريخي لـ أوجلان بنزع سلاح "العمال"في تركيا
ويندرج ترحيب الرئيس رجب طيب أردوغان بدعوة أوجلان في سياق الآمال الكبيرة المعقودة على كلام "آبو". وقال أردوغان، خلال مؤتمر صحافي عقده قبل مغادرته إلى الرياض، إن "الدعوة للتخلي عن السلاح كانت تشكل تطلعاً هاماً للغاية بالنسبة لنا"، مضيفاً أن "الدعوات حسنة، لكن المهم التطبيق كما قلت سابقاً". كذلك جاء سريعاً ترحيب رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو بدعوة أوجلان.
كما أكدت لجنة الحكماء التي كانت الحكومة قد شكلتها في وقت سابق للقيام بمهمة الترويج لعملية السلام على أهمية دعوة أوجلان، إذ رأى ترهان إردم عضو اللجنة عن منطقة بحر إيجة أن "دعوة أوجلان تحمل مغزى كبيراً ومهماً جداً من أجل التوصل لحل"، مشيراً إلى "إمكانية عقد مؤتمر العمال الكردستاني قبل 21 من مارس/آذار المقبل، ليتم الإعلان رسمياً عن ترك السلاح في عيد النوروز، ومن ثم بحث الحقوق الديمقراطية وحقوق الإنسان والمشاركة في الحياة السياسية".
كما رحب كمال كلجدار أوغلو، زعيم حزب "الشعب الجمهوري"، أكبر أحزاب المعارضة التركية، بدعوة أوجلان، مشدداً على أن "السلام لا يمكن أن يتحقق في ظل وجود الأسلحة، التي إن تُركت سنكون سعداء"، مكررا دعوته إلى إعادة القضية إلى سقف البرلمان لتتم مناقشتها.
في المقابل، بطبيعة الحال، كان حزب "الحركة القومية"، اليميني القومي المتطرف، ثاني أكبر أحزاب المعارضة في البلاد، الطرف الأقوى بين غير المرحبين بتاتاً بإعلان أوجلان وشبه الاتفاق مع الحكومة التركية.
لدعوة أوجلان الكثير من الأهمية على مختلف الصعد، إذ تشكل على المستوى الداخلي انتصاراً كبيراً لحزب العدالة والتنمية الحاكم قبل الانتخابات البرلمانية المقبلة في يونيو/حزيران المقبل، إذ ستمكن الدعوة حزب أردوغان من تثبيت المعادلات الرائجة في الشارع التركي من قبيل "إما العدالة والتنمية أو الفوضى" و"العدالة والتنمية هو من بدأ عملية السلام وهو الوحيد القادر على إتمامها والوصول إلى حل نهائي للقضية الكردية في إطار وحدة الجمهورية التركية"، ما سيسمح له بجذب المزيد من الأصوات الكردية والقومية التركية المساندة للعملية، وذلك في ظل التحدي العالي الذي وضعه أردوغان للحزب بالحصول على 400 مقعد من أصل 550 مقعداً برلمانياً يتألف منهم المجلس، لتمرير مشروع الدستور الجديد الذي سيؤسس للنظام الرئاسي بدل البرلماني، الذي لطالما كان أحد أحلام أردوغان.
وفي ما يخص حزب "الشعوب الديمقراطي" (الجناح السياسي للعمال الكردستاني)، فإن هذه الدعوة ستسمح له أيضاً بجذب أصوات اليسار التركي مرة أخرى بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة، إذ سيتم استغلال دعوة أوجلان ليقوم الحزب بتقديم نفسه على أنه الحزب اليساري الوحيد القادر على إنهاء أهم الصراعات في التاريخ التركي الحديث والمعاصر، ضمن صياغة يسارية واضحة المعالم في إطار وحدة البلاد، متجاوزاً التأثيرات السلبية الناتجة عن أعمال العنف التي رافقت الاحتجاجات المساندة لمدينة عين العرب السورية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، في ظل قرار الحزب خوض الانتخابات ضمن قائمة حزبية، متحدياً عتبة الانتخابات التي لم يستطع أي من أذرع العمال الكردستاني السياسية تجاوزها منذ دخوله العملية السياسية التركية.
تطرح دعوة أوجلان الكثير من التحديات على العمال الكردستاني بكل المنظمات التابعة له، سواء على مستوى الدور العسكري أو الخطاب السياسي أو التحالفات في المنطقة وحتى على إبقاء تماسك الحزب، فبعد إقرار دعوة أوجلان بإنهاء النضال المسلح ضد أنقرة، وهو أمر متوقع، سيفقد الحزب فجأة عدوه القومي الذي كان الأساس لشرعنة وتأسيس أدائه وخطابه السياسيين.
من الناحية السياسية الداخلية التركية، فإن مسيرة التحول عن النهج الماركسي قد بدأت منذ فترة طويلة، حيث إن الشعوب الديمقراطي ومن قبله حزب السلام والديمقراطية كانا ينتهجان تحولاً واضحاً نحو أداء "اليسار الأوروبي" المساند للحريات والمناهض للنزعات العنصرية، حتى أن العمال الكردستاني يعتبر الحزب الوحيد في تركيا الذي يناصر حقوق المثليين الجنسيين.
من ناحية أخرى، فإن إنهاء فكرة العداء لأنقرة ستسرع ما أطلق عليه خلال الانتخابات الرئاسية "تتريك الحركة القومية الكردية"، وذلك تعليقاً على أداء صلاح الدين دميرتاش مرشح الشعوب الديمقراطي لمنصب الرئاسة، والذي نجح في تقديم نفسه "كيساري تركي".
أما من الناحية الاستراتيجية، فإن إنهاء الصراع مع أنقرة لا بد أن ينهي أي مبرر لأي تواجد عسكري، لكن العمال الكردستاني بأجنحته المختلفة ما زال منخرطاً بشكل مباشر سواء في سورية أو في العراق بالحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بل ونجح بتقديم نفسه على أنه أكثر المليشيات تماسكاً وقوة، لتسمح دعوة أوجلان الأخيرة للكردستاني بالتفرغ الكامل لقتال داعش، الأمر الذي سيجعل العداء للتنظيمات الجهادية بديلاً للعداء لأنقرة، وضماناً لتماسك الحزب اليساري.
في غضون ذلك، فإن التطورات الأخيرة في عملية السلام قد تجعل التحالف مع أنقرة بديلاً عن إربيل وإقليم كردستان العراق الذي كان النافذة الوحيدة على العالم، بعد العزلة التي نجحت أنقرة في فرضها على الكردستاني. وقد تحيل قوات الحماية الشعبية التابعة للاتحاد الديمقراطي إلى ذراع تركي، فملامح التعاون العسكري كانت واضحة خلال الأيام الأخيرة التي شهدت عملية شاه فرات في سورية لنقل ضريح سليمان شاه جد مؤسس الدولة العثمانية، حيث أخذت حكومة العدالة والتنمية تجني ثمار عملية السلام ودعمها لقوات الحماية الشعبية في المعركة مع داعش على المستوى الخارجي.
ورغم إنكار الحكومة حدوث أي تعاون بينها وبين قوات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي (جناح العمال الكردستاني في سورية)، إلا أن المؤكد هو أن القوات المسلحة التركية دخلت الأراضي السورية من جهة المناطق التي تسيطر عليها قوات الحماية الشعبية حول مدينة عين العرب، وبتنسيق معها. حتى أن ملكية الأرض التي سيقام عليها ضريح سليمان شاه في قرية أشمة الحدودية ضمن الأراضي السورية تعود لمواطن كردي سوري يدعى بوزان عثمان. وأكد مراد كرايلان، الرجل الثاني في حزب العمال الكردستاني، حينها، هذا التنسيق، قائلاً: "إن عملية فرات شاه تمت بالتعاون وموافقة قوات الحماية الشعبية، في ما يمكن اعتباره بداية لتطوير العلاقات والصداقة بين الطرفين". تعاون بدأ يأخذ أشكالاً عدة على مختلف الصعد، منها معالجة المشافي التركية لأكثر من 523 مقاتلاً للاتحاد الديمقراطي الكردي ممن أصيبوا خلال المعارك التي دارت مع (داعش) في مدينة عين العرب ومحيطها، والزيارات المتكررة لصالح مسلم زعيم الاتحاد الديمقراطي للمدينة السورية، والتي كان آخرها قبل أسبوعين، وتخفيف نبرة انتقاد مسلم لأنقرة، بل وحتى قيام قوات الحماية الشعبية بتسليم مواطن كردي سوري للشرطة التركية، بعد أن هرب إلى سورية إثر اتهامه بجريمة قتل وقعت في ولاية شرناق شرق تركيا. لكن يبقى الرهان الأكبر هل سيستطيع العمال الكردستاني استيعاب هذا التحول، وينجح في الحفاظ على نفسه مع انتهاء أسطورة "العدو القومي" ممثلاً بأنقرة.