قضاء الأسرة والتحولات القيمية داخل المجتمع المغربي
ليس من الصعب من وجهة النظر السوسيولوجية ملاحظة مدى التغيرات التي طرأت على منظومة القيم داخل المجتمع المغربي خلال العشرين سنة الأخيرة، باستخدام الرصد والاستقراء وآليات الاستبيان والإحصاء وغيرها من أدوات الاشتغال السوسيولوجي على الظواهر الاجتماعية، وخاصة تلك التي تتعلق بالقيم الأسرية والسلوكية والتربوية والمعاملات والعلاقات ذات الطابع الأسري.
ويمكن بسهولة الخلاص إلى مجموعة من النتائج باستخدام مؤشرات حول مستوى التعليم والصحة والدخل الفردي والفئة العمرية والنوع الاجتماعي والحالة الاجتماعية والتوجه الديني واللباس وغيرها من المؤشرات الكلاسيكية التي قد تدل في النهاية على وجود تحول اجتماعي أو وجود أزمة أو صدام بين النماذج والاختيارات. خاصة وأن التحول على مستوى البنى والنظم لا خلاف عليه في زمن العولمة واللبرلة والاستخدام المكثف للتكنولوجيات الحديثة في مجال التواصل وانتشار ثقافة الحريات الفردية وحقوق الإنسان، والترويج الإعلامي والإيديولوجي للخطاب الفرداني في مقابل هجوم متواصل على البنى والقيم المحافظة بحكم سياقات متعددة بعضها سياسي وإيديولوجي، وبعضها الآخر ذو طابع أمني.
لكن هل يمكن أن تقدم هذه المؤشرات الصورة الكاملة لواقع التحولات القيمية داخل المجتمع دون الوقوف على المؤشرات الصادرة عن المحاكم -أقسام قضاء الأسرة- بشكل خاص باعتبار اختصاصها القضائي في تدبير قضايا الزواج والطلاق والحضانة والتركات والحالة المدنية والنزاعات الأسرية.
خاصة وأن الإحصائيات الصادرة عن وزارة العدل المتعلقة بالمحاكم -أقسام قضاء الأسرة- المستندة إلى قاعدة البيانات في قضايا الزواج والطلاق مؤشر جيد على فهم حركية المجتمع وتحولاته القيمية المرتبطة بالأسرة من الناحية الإحصائية.
في حين أن الإحصائيات والبيانات المتعلقة بالنزاعات ذات الطابع الأسري تبدو حاسمة في وضع التصور الأمثل لما يحدث داخل المجتمع من تغيرات في منظومة القيم، بحكم أن هذه النزاعات لا تشمل فقط الخلافات الزوجية وقضايا النفقة ومغادرة بيت الزوجية وقضايا ثبوت الزوجية والتسجيل في الحالة المدنية، بل تتعداها لتشمل قضايا ذات طابع جنائي وهي العنف ضد الأصول والخلافات حول قسمة التركات والعنف ضد النساء والأطفال وعنف الزوجات ضد الأزواج.
فبعد أن كان هذا النوع من القضايا يتم حله داخل البنى التقليدية للمجتمع من خلال مؤسسة الأسرة الكبرى والقبيلة ومؤسسة المسجد، أصبحت أقسام قضاء الأسرة - شعبة قضاء الأسرة بالنيابة العامة مثلاً وخلايا مناهضة العنف ضد النساء والأطفال تضج بهذا النوع من الشكايات والخصومات.
ودون الاشتباك مع المعطيات الإحصائية التي توفرها وزارة العدل سنوياً حول هذا النوع من الشكايات ومآلاتها، يمكننا ومن خلال الممارسة العملية أن نلاحظ تنامي وتزايد ظاهرة العنف ضد الأصول، بحيث أنها أصبحت تشكل تقريباً 50 في المائة من مجموع الشكايات التي تستقبلها النيابة العامة بقسم قضاء الأسرة، بالإضافة إلى شكايات إهمال الأسرة وشكايات العنف ضد النساء الذي يتم في أغلبه من قبل الأزواج أو داخل منظومة الأسرة، عدا عن العنف والتحرش الجنسي بالفضاء العمومي.
قد يذهب البعض من رواد الأطروحة المؤسساتية إلى أن الولوج المكثف لمحاكم الأسرة وللنيابة العامة من أجل النظر في هذه النزاعات هو بمثابة مؤشر على الثقة التي أصبح يوليها المواطن للقضاء، وسهولة الولوج للقضاء واتساع منظومة الحق في التقاضي وتحريك الدعوى العمومية بواسطة الشكايات في النزاعات ذات الصبغة الأسرية، وذلك في سياق التوجه العام للمملكة المغربية نحو ملاءمة تشريعاتها الوطنية مع الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، خاصة في مجال حقوق الطفل وحقوق المرأة والذي تكلل بإحداث خلايا التكفل بالنساء والأطفال ضحايا العنف بالمحاكم وإصدار القانون المعياري المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء.
لكن هذا الرأي على وجاهته لا يمكن أن يغطي عن واقع النتائج التي تسفر عنها هذه الشكايات، إذ أن أغلبها يتم حفظه في غياب أدلة ووسائل الإثبات خاصة عندما لا يتعدى العنف ضد الأصول والزوجات الجانب اللفظي والمعنوي والعنف الذي لا تصحبه أي آثار جسدية أو شواهد طبية تثبت العجز، حيث ينتهي أغلبها بالحفظ لانعدام الإثبات أو الحفظ للتنازل دون أي مؤشر على الصلح، حيث يفضل كثير من الآباء والأمهات والنساء في النهاية التخلي عن المتابعة من أجل استمرارية العلاقات الأسرية وعدم الإضرار بالمستقبل المهني للأولاد وخاصة المراهقين، في حالة تطبيق عقوبة جنائية في حقهم مما يحرمهم من سجل عدلي نظيف.
وحتى عندما تتكلل الشكاية بالمتابعة الجنائية فإن ذلك يكون مؤشراً على التفكك النهائي للعلاقات الأسرية والإنسانية، إذ كيف بعد تحقق المقاربة الزجرية سيعود الدفء بعد ذلك للعلاقات الأسرية.
ولذلك فإن العدالة العقابية حتى وإن تم تفعيلها بشكل أكثر نجاعة وفورية لا يمكنها أن تخفي حقيقة الانهيار الذي تعرفه القيم الاجتماعية التربوية والأسرية، حتى في المجالات الترابية الأكثر محافظة مثل البوادي والأرياف حيث أصبح هذا النوع من القضايا أمراً متداولاً، بحيث أن الكثير من واضعي الشكايات من هذا النوع ينحدرون من البوادي وضواحي المدن التي تقبع في الهشاشة والفقر.
ودون الإحالة إلى المقاربات الاقتصادية - الديالكتيكية، في تفسير الظاهرة الإجرامية علينا القول بأن المجتمع المغربي في الفترة الأخيرة أصبح عاجزاً عن تدبير أزماته بشكل تلقائي من خلال بنياته الاجتماعية التقليدية، وأصبح عاجزاً عن إنتاج العدالة التصالحية بشكل تلقائي من خلال مقاربة الصلح والسلم الاجتماعي، وأصبح بالمقابل يرى في المحكمة -وحتى في قضايا الأسرة ذات الطابع الحميمي- الملاذ الأمثل لعلاج هذا النوع من النزاعات.
بالطبع فالمجتمع والدولة والمؤسسات والأفراد، الكل معني بعلاج الظاهرة وخاصة القضاء لأنه صمام أمان المجتمع والصائن للحقوق والحريات الفردية والجماعية، لكن وفي خضم التزايد المهول في حجم النزاعات الأسرية لا بد أن تتعدد آليات التدبير ومراجعة طرق معالجتها، بحيث يصبح القضاء هو الملاذ الأخير وليس الملاذ الأول الذي يلجأ إليه بسبب أزمة المجتمع في تدبير قضاياه الأساسية.
لأن حل الإشكالات والنزاعات الأسرية ليس رهين الأحكام القضائية والمتابعات الجنائية، بل رهين بحل الإشكالات الأساسية على مستوى الشبكة القاعدية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أي توفير البنية التحتية الكفيلة بمكافحة الهشاشة والفقر وتحقيق التنمية المستدامة وتوفير التعليم والصحة الجسمانية والعقلية والنفسية، خاصة وأن كثيراً من الجانحين تبدو أمارات الاختلال النفسي أو تعاطي المخدرات بادية عليهم، كما أن كثيراً من الضحايا يحتاجون إلى قدر كبير من الرعاية الصحية والنفسية والدعم المعنوي بدل سلوك المساطر والإجراءات القضائية.
إن الجهد الذي تبذله اليوم أقسام قضاء الأسرة بتركيبتها البشرية (قضاة - قضاة النيابة العامة - موظفو هيئة كتابة الضبط) وبكل موضوعية يعدل الجهد الذي كانت تلعبه مؤسسات اجتماعية عريقة بحيث يتمظهر ذلك في الأدوار الاجتماعية والإنسانية التي أصبح يقوم بها من خلال سلوك مختلف المقاربات بما فيها المقاربة التصالحية وتقديم الدعم النفسي والمعنوي من خلال الاستماع والإنصات للضحايا وتيسير سبل الدعم الاقتصادي من خلال تفعيل إجراءات الاستفادة من صندوق التكافل الاجتماعي.
لكن كل ذلك لا يعفي المجتمع وباقي المؤسسات من تحمل مسؤولية التراجع المخيف الذي تشهده القيم الأسرية والتربوية، مما أصبح لا يخفى على أحد تكلفته الاجتماعية والاقتصادية والجنائية ولا بد من إيجاد البدائل والإجابات المؤسساتية قبل أن يتفاقم إلى درجة يصعب معها حصره في الطابع الأسري الضيق.