قصص نحيلة

26 مارس 2015

سؤال: أين اختفت الصورة؟

+ الخط -
ماكياج
أقول لها "يا ست الكل، كان لي صورة معكي وأنا طفل، لم أرها منذ سنوات، لكنني أذكرها جيداً، كنت في الثالثة من عمري ربما. كنت أجلس على حجرك، وأنت تمسكين برأسي، ليثبت في اتجاه الكاميرا، وبالأمارة كان وجهك به ماكياج أكثر من اللازم حبتين، وكان وراءنا خلفية بشعة، فيها بحر أو ربما نهر، أين اختفت هذه الصورة؟". كانت تغير الموضوع كل مرة، أو تعدني بأن تبحث عن الصورة، ثم لا تفعل حتى أنسى الأمر، وحين طلبت مني مجلة صورة لي وأنا طفل بصحبة أمي، لنشرها في عدد خاص عن عيد الأم، قررت أن أبحث بنفسي عن الصورة في الدولاب الذي تحتفظ فيه بكراكيب طفولتنا. فاجأني ارتباكها حين رأت الصورة، خاصة حين عرفت لماذا أطلبها، ذهبت إلى الدرج، وأخرجت صورة أخرى لها معي ومع إخوتي، وقالت "أعطهم هذه، شكلي فيها أحسن". قلت لها "شكلك في الصورتين أم، وكل أم شكلها حلو بالضرورة، سأعطيهم هذه لأنها الوحيدة التي تجمعني بك بعيداً عن الزحام". وبكاؤها المفاجئ استدعى مني تحقيقاً مطولاً حول سر كراهيتها الصورة، لأعرف، في نهاية المطاف، أن مبالغتها في الماكياج وهي تلتقط تلك الصورة، لم يكن وراءه ذوق سيئ، بل رغبة في إخفاء أثر صفعة غاضبة، فشل الماكياج في إزالته من داخلها، برغم مرور ثلاثين سنة.   
رسالة غير تقليدية
يومها، ضاع مستقبل زميلنا في "أولى ثانوي"، لأنه استجاب لرغبة مشرف الصحافة المدرسية الذي طلب منّا قبل عيد الأم: "اكتب رسالة غير تقليدية لست الحبايب، تهنئها فيها بعيدها"، وزميلنا، ذو اللسان السليط والخيال الجامح، أخذ المعنى حرفياً، وكتب رسالةً، قال فيها "أمي الحبيبة، كل سنة وإنتي طيبة، يا رب تكوني استمتعتي في الليلة اللي كانت سبب إني آجي للدنيا، وما تكونيش أديتيها تقضية واجب، ويا رب يكون أداء بابا ليلتها مشرف ومش أناني". وحتى اليوم، لا أنسى كيف ارتسمت على وجهه ابتسامة غامضة، حين أبلغوه قرار الفصل من المدرسة، وهو يقول لنا بسلام غريب مع النفس: "وهو عيب يعني إن الواحد يهتم بسعادة الناس اللي بيحبهم؟".  
.. ولا تعُضّ رغيفي
أعطيته كل ما معي من فكّة، بعد أن انتشيت بصوته الجميل، وانبهرت بقدرته على الانفصال عن ضجيج المترو، ليعطي أحسن ما عنده، حين نظر إلى ما وضعته في حقيبة الجيتار، أعاد المقطع الذي كان يغنيه تقديراً لي، فقررت تفويت المترو الذي كنت أنتظره، لآخذ الذي يليه، سعياً إلى الاستمتاع بصوته أكثر، ولكي لا أقلل عدد المتحلقين حوله، اقتربت من جمعنا سيدة عجوز عمياء، تستند على ذراع من لعلّها ابنتها، أخذت تستمع إليه بإعجاب، قبل أن تقرر فجأة مشاركته في أداء الأغنية، بصوتها الذي أعجب الجميع به، تحمست لمزيد من المتعة، لكنه فاجأنا بتغيير الأغنية، وعزف لحناً آخر، فقط ليمنع السيدة العجوز من مشاركته الغناء، مع أنها لم تبدُ كمنافس محتمل على الرزق أو حتى الإعجاب. كان تصرفه الفظ سبباً لأقرر اللحاق بالمترو من دون تأخير، معتبراً تصرفه إشارة إلى نمط سلوك، هو الذي أفضى حتماً بموهبته إلى المترو، لكنني تذكرت منظر النقود القليلة التي تناثرت في حقيبة الجيتار، فلمتُ نفسي على تسرعها في الحكم، وذكّرتها بأن الجوع فعلاً كافر.
منافذ للحزن
قبل أن ننعطف باتجاه المصعد، كنا قد سمعنا صوت نشيجٍ يتردد من هناك. حين وصلنا إلى المصعد، كانت السيدة الخمسينية تقف إلى جواره، وقد أدارت ظهرها لنا، كانت تحمل في يدها أكياس بقالة، وتبكي بحرقة شديدة، لم يخفف منها وصولنا إلى المكان. مال زوجي عليّ، وسألني عما يجب أن نفعله للمساعدة، قلت هامسة: "لعلها تلقت خبراً حزيناً، ومن الأفضل أن نتركها لتختلي بنفسها". حين وصل المصعد، فوجئنا بها تكف عن البكاء، ثم تلحق بنا إلى داخله، وهي تمسح دموعها بالمنديل. ابتسمت لنا وهي تحاول استجماع نفسها، قبل أن تخرج من حقيبتها "قطرة"، وضعت منها نقطة في كل عين، ثم نظرت إلى شكلها في المرآة، لتطمئن على عودته إلى وضعه الطبيعي، وبعد أن سبقتنا في الخروج من المصعد، أخذ زوجي يتحدث عن ضغوط الحياة التي أفقدت الناس عقولها، فيما كنت أحاول جاهدة أن أتذكر اسم القطرة التي وضعتها في عينيها، حتماً سأحتاجها.
 
دلالات
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.