قصص نحيلة

20 ابريل 2015
+ الخط -
سكة حديد
كنا نجلس في بلكونة شقته التي باتت تثير حسدي، منذ دخلتها أول مرة. كان قد مضى على جيرتنا ما يقارب العام، ولعلّه يومها شعر أن تلك فترة تسمح بتحوّل جيرتنا إلى صداقة، تتطلّب مشاركة بعض الأسرار. للحظات ساد المكان ذلك الصمت اللطيف الذي يعقب مرور القطار، بصخبه الذي يتكرر كل خمس دقائق، أو ما دونها، أشار إلى قضبان السكة الحديد الواقعة أسفل البلكونة، وقال بحنقٍ كأنه يتحدث عن عدو قديم: "لم يقض على زواجنا إلا هذا القطار اللعين"، وأطلق زفرة قوية، اهتز لها كوب الشاي بيده، قبل أن يستحيل حنقه إلى أسىً، نطقت به كل حروفه: "أو ربما هي التي اتخذت القطار حجة لكي تخرب هذا البيت، هي اللعينة لا القطار، كأنها لم تر هذه القضبان، حين فرحت بالشقة، كأنها لم تعتبر قرب محطة القطار من المنزل ميزة، تستحق أن تحكي عنها لكل الأقارب والأحباب، كأنها لم تسمع صوته، كلما مر بالجوار طيلة خمسة أعوام مما كنت أظنه سعادة ستدوم، كأن كل الأزواج الذين استمروا في السكن هنا صُمٌ أو حمقى". صمت قليلاً، ربما ليختبر صحة ما سيقوله لاحقاً: "كأنها لم تكن تشعر بالقطار أبداً، حين تكون لاهثة في لذة الجماع، كأن ابنتينا الآن أسعد حظاً بالحياة، بعيداً عن أبيهما، في شقة لا يمر بجوارها قطار"، وحين انهمر في نشيج حاد، ارتبكتُ، ولم أدرِ ما يمكن أن أفعله لأخفّف عنه، وتمنيت أن يطول صخب القطار الذي عاود المرور، على الأقل حتى يتوقف عن البكاء.

تعديل مسار
لم يجد بُداً من اللجوء إلى موهبته المدفونة في حكي القصص، خصوصاً بعد أن أبدت ابنته امتعاضها من المقطع الذي قالت فيه القصة إن الملك اضطر إلى أن يكذب، فيقول لشعبه إنه رزق بولد وليس ببنت، ليجبر ابنته على أن تتحول إلى ولي للعهد، وحين لم تفهم ابنته سر لجوء ملك القصة إلى الكذب، عمل مونتاجاً اضطرارياً للقصة على الهواء، فجعل الملك يوكل لولي العهد كثيراً من مهامه حين كبر، وحين أداها بامتياز أثار ذلك إعجاب الشعب، فصارح الملك شعبه بأن ولي عهدهم الذين أعجبوا به فتاة وليس شاباً، وأن كونها أنثى لم يمنعها من أداء مهامها على أكمل وجه، فوافق الشعب على تغيير قانون المملكة الذي يحرم المرأة من تولي الحكم. وورثت الفتاة عرش أبيها، وعاش الشعب في تبات ونبات. ليلتها نامت ابنته سعيدة وهي تحلم بمملكتها الخاصة، بينما تأخر نومه طويلاً، بعد أن عاودته أحلام كتابة القصص التي ظن أنها ولّت بلا رجعة.

داء عُضال
كما توقّع، لم يفهمه الطبيب حين طلب منه أن يدلّه على دواء يجعله ينسى، بالتحديد، كل الأشياء التي كتب عنها من قبل، لكي يستطيع تكرار الكتابة عنها، باندهاش ومن دون أن يشعر بالألم، لأنه مضطر إلى التكرار اللانهائي.

في سن الضياع
كانت المباراة حامية الوطيس، بشكل لا يتناسب مع صغر الملعب الذي تجري عليه، وقلّة عدد اللاعبين، أخذت أتابعها مستمتعاً، من دون أن تغيب عيني عن متابعة لعب بناتي بالمراجيح والزحاليق. أحد اللاعبين قام بترقيص منافسه ترقيصة مهينة، وحين شَرَخ بالكرة، بصق عليه المنافس من فرط غيظه، بصقة عائلية الحجم، استقرت في قفاه، ترك المبصوق عليه الكرة، واستدار ليصفع منافسه بحرقة شديدة، والصفعة استفزت أطول اللاعبين الذي لم يكن قد رأى البصقة التي سبقتها، فصرخ في عموم اللاعبين "اشهدوا يا رجالة.. مصطفى حنكر ضرب أحمد ناصر بالقلم على وشه.. هي دي بقى الصحوبية؟". امتقع وجه المصفوع، ولعلّه تمنى لو لم يكن الأطول قد ناصره ليفضحه، والمبصوق عليه قرر شرح موقفه، فصرخ مشيراً إلى الباصق المصفوع "البيه تفّ عليّا من ظهري، والقلم ده عشان يبقى يتفّ عليّا في وشي بعد كده"، وحين نظر الجميع إلى الباصق المصفوع، لم يجدوا منه سوى نظرات حائرة، قرر أن يتغلب عليها، بتوجيه بصقة جديدة، هذه المرة، إلى وجه صافعه، لتندلع موجة عارمة من الضحك، أوقفتها صفعة جديدة أشد قسوة، ترتب عليها التزامات معنوية، أشعلت حرب الجميع ضد الجميع.
دلالات
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.