قصص نحيلة

22 ديسمبر 2014

لم تكن أمي تجيد صنع الخبز أبداً (Getty)

+ الخط -

في ذكر ما يبقى
احترم المحيطون بها جلال حزنها. ولذلك، أرجأوا سؤالها عما كانت تديم الاستماع إليه، منذ أن رحل عنهم وعنها، ظلوا يراقبونها أياماً طويلة، وهي تضع السماعة المثبتة بموبايلها في أذنيها، وتغرق في صمت تختلط فيه الابتسامات المريرة بالدموع المنهمرة. كان أغلب ظنهم أنها تستمع إلى تسجيل حميم دار بينهما يوماً ما، وقد كان ظنهم في محلّه، فقد كانت، طوال الوقت، تستمع إلى كليب سجلته في أثناء نومه، لتستخدمه رداً دامغاً على تقليده الساخر للأصوات التي تصدر عنها خلال نومها العميق. لم يكن التسجيل يحمل سوى صوته، صوت شخيره وهو نائم.

حدث بعد ثورة
كان يقود سيارته في أحد شوارع مصر الجديدة، عندما لمح رئيسه السابق يسير في الشارع، وهو يجرّ قدميه بتثاقل، وقد فارقته كل ملامح الأبهة التي لازمته، خلال عمله رئيس تحرير أكبر الصحف الحكومية. لم يكن صديقي يحب رئيسه أبداً، لكنه مع ذلك شعر بالشفقة عليه، فقرر أن يقترب منه بسيارته، ليعرض توصيله إلى حيث يريد، اقترب منه ببطء، وهو يفتح شباك العربية، قبل أن ينادي عليه "إزيك يا أستاذ أسامة"، حتى، الآن، لا يصدق صديقي نفسه، كلما تذكّر كيف سكنت ملامح الذعر وجه الرجل الذي تجمد في مكانه لحظات، قبل أن يطلق ساقيه هارباً، وهو يتلفت خلفه في رعب، ليصطدم بصندوق القمامة، ثم ينهض مسرعاً ويواصل الجري.

خبز أمي
شأن كل الأمهات الجامعيات بنات المدن، لم تكن أمي تجيد صنع الخبز أبداً. قلت لها ساخراً، وأنا أودعها لأسافر نحو جامعتي "سامحك الله، لأنك حرمتني من أن أردد مع محمود درويش: أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي، فأنت لا تجيدين صنع القهوة، ولا تخبزين من أصله". في الزيارة التالية لي، حاولت كثيراً أن أعرف سر الضمادة التي تلف يدها اليمنى، لكنها كانت دائماً تغير الموضوع، وعندما دخلت أمي لتنام "ساعتين الضهر بتوعها"، أخذتني أختي إلى السطوح، وأرتني فُرناً بدائي الصنع، ظهر فجأة على السطح، ثم قالت لي بما معناه: "يد أمك الملفوفة بالضمادة تُخفي حَرقاً تعرضت له، لأنها حاولت أن تتعلم كيف تجعلك تَحِنُّ إلى خُبز أمك، يا روح أمك".

بعد فوات الأوان
اليوم، مررت مصادفة إلى جوار الممر الذي تزحلقنا سوياً على بلاطه ذات يوم. أغراني الحنين إليك بتكرار التجربة، لكنني تذكرت أنني أضعت تليفونات طبيب العظام الذي أثق به، فاكتفيت بالحنين، ومشيت من سكات.

دواء الرعب!
كان مرعوباً طوال الوقت من أن يداهمه الموت فجأة، فتموت معه أحلامه التي لم يحققها، حاول، على الدوام، أن يجعل من ذلك الرعب حافزاً له على الإنجاز ومواصلة العمل، لكنه، أخيراً، اكتشف أن ذلك الرعب الذي لم يفارقه أبداً، قد أفسد عليه الاستمتاع بحياته. لذلك، قرر أن يكون مستعداً للموت في أي لحظة، من دون أدنى قلق، بعد أن نسي كل أحلامه، كأنها لم تكن.

مظاهر خدّاعة!
لم يضايقه سعر الحقنة الغالي، ولا فيزيتة جلسة العلاج الطبيعي التي ارتفع سعرها، من دون مبرر، بقدر ما ضايقته وأهانته تلك العبارة التي قالها الطبيب، بعد أن انتهى من فحصه، كان الطبيب قد طلب منه ترك العمل ثلاثة أشهر، ليساعد أعصاب ذراعه الملتهبة على التعافي، رد بعصبيةٍ ربما ظن أنها ستدفع الطبيب لتغيير قراره "ما أقدرش أسيب شغلي أموت من الجوع". حرقة الرد جعلت الطبيب يستطلع مظهره المهندم، قبل أن يقول له "بس إنت شكلك مستريح، وتستحمل تسيب الشغل شوية"، ليندفع صارخاً في الطبيب "يعني مستكترين علينا القميص النضيف اللي بنلبسه.. لازم الفقير ينزل من بيته مقيّح يعني عشان تنبسطوا". كان قد حكى لي الحكاية بذات الحُرقة كأنها حدثت للتو، ثم قال بعد زفرة عميقة "أنا عارف إن الدكتور ما يقصدش بس برضه الكلمة ضايقتني".

يفتأ يذكرها!
كان على الدوام يعشق الاستماع إلى سورة يوسف، لكنه منذ افترقا لم يعد يفعل ذلك. لم يفكر مطلقاً في أن يبحث في كتب التفاسير عن معنى كلمة "حرضاً"، ولم يكن يحتاج إلى ذلك، لأنه كلما وصل المقرئ إلى آية "قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين"، يتذكر كل محاولاته الفاشلة لنسيانها، ويجتاحه حنين موجع إليها، فينخرط في بكاء مرير، قال له كل محبيه إنه لو داوم عليه فسيكون حرضا، أو سيكون من الهالكين.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.