يقبع مخيم اليرموك جنوب العاصمة السورية، دمشق، منذ 4 أشهر تقريباً تحت الحصار، وصور الناس الذين يموتون جوعاً تستصرخ الضمائر. يقف على حافة الحياة من تبقى منهم ، ينتظرون المساعدات الغذائية القادمة إلى المخيم، لكنها قد لا تأتي بسبب حصار قوات النظام السوري.
تسيطر قوات الجيش السوري على البوابة الشمالية لمخيم اليرموك منذ منتصف شهر كانون الأول/ ديسمبر 2012 ، تساندها في ذلك مجموعات موالية للنظام من حي التضامن المجاور للمخيم، يطلق عليهم اسم "شبيحة شارع نسرين"، وهو أكبر شوارع منطقة التضامن، وهؤلاء "الشبيحة" يسيطرون على مدخل اليرموك من جهة شارع فلسطين، إضافة إلى قوات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين "القيادة العامة" و"فتح الانتفاضة"، و قوات تابعة للنضال الشعبي المنشقة، وتتقدم عناصر "القيادة العامة" قوات النظام عند مدخل اليرموك، وهي التي تتصدى للأهالي كلما حاولوا كسر الحصار للخروج من المخيم، وتطلق عليهم النار فتردي بعضهم قتلى بين الحين والآخر، بينما تسيطر في الجهة المقابلة داخل المخيم مجموعات مسلحة سورية وفلسطينية موالية للمعارضة، تبسط نفوذها على مساحة كبيرة في عمق شارع اليرموك ، في المنطقة الواقعة بين ساحة الريجة ومقبرة الشهداء نهاية المخيم.
على شفا الموت
ملحمة الموت هنا مخيفة ومرعبة، فمن أصل ما يُقارب من مليون مقيم بينهم حوالى 150 ألف فلسطيني لم يتبقّ في المخيم إلا ثمانية عشر ألفاً، يعيش هؤلاء تفاصيل الجحيم الذي صنعه طرفا النزاع السوري.
في هذا المكان المدمر التقى "العربي الجديد" عدداً من أهالي اليرموك لينقل على لسانهم تفاصيل العيش في هذا الجحيم. الحاج عبد الحميد تميم (أبو العبد)، وهو رجل سبعيني يعيش في اليرموك منذ مطلع ستينيات القرن الماضي، وقد أصر على البقاء في بيته في شارع لوبية ـ أكبر الشوارع التجارية بالمخيم ـ لقناعته أن لا خروج من اليرموك إلا إلى مسقط رأسه في فلسطين أو إلى القبر. يقول عن الأوضاع في المخيم اليوم "للأسف ما زال وحش الموت يلتهم الناس جوعاً، وكل ما دخل من مساعدات حتى اليوم غير كافٍ، فمن بقي في المخيم أكثر من 18000 شخص وما يصلنا من أغذية بين الحين والآخر لا يفي حاجة الجميع، والطريقة المعتمدة في توزيع السلات الغذائية مهينة وغير لائقة بالبشر كما أنها لا تصل إلى كل من هو محتاج، والحل الوحيد للخلاص هو انسحاب كل المسلحين من داخل المخيم، وفتح المدخل الرئيسي الذي يسيطر عليه النظام، والسماح للناس بالخروج والدخول من وإلى المخيم، وإدخال كل المساعدات من قبل منظمة غوث اللاجئين (الأونروا) ومنظمة التحرير وكل الفصائل والهيئات الإغاثية الفلسطينية والدولية دفعة واحدة لسد حاجات كل العائلات التي تعاني الويلات". يطالب أبو العبد كذلك بإعادة هيكلة المستشفيات لعلاج الناس والعمل على نقل ذوي الحالات الحرجة إلى المستشفيات خارج المخيم، إضافة إلى تأهيل البنية التحتية بعد كل هذا الخراب".
بدورها تقول السيدة صفاء السهلي، التي تصر هي الأخرى على البقاء داخل المخيم، إن "الوضع المأساوي لسكان المخيم لم يعد يحتمل الجدل والمساومات السياسية الرخيصة، ولا بد من تجريد المخيم من السلاح، تمهيداً لعودة آمنة لسكانه ولفتح ممرات إنسانية لإغاثة من بقي من سكان المخيم. وفي حال لم تحل أزمة اليرموك خلال أيام فإننا سنكون أمام محرقة إنسانية حقيقية، فكل شيء في المخيم نفد بعد أن طهونا أوراق الشجر والصبار والعشب والبهارات بأنواعها، وهو ما تسبب بوفاة البعض، حيث أكد من بقي من أطباء هنا أن سبب وفاة هؤلاء هو تناولهم أعشاباً سامة، و هناك من اضطر إلى أكل لحوم القطط بعد أن أجاز لهم شيوخ المخيم ذلك".
معضلة الإغاثة
وفي المكان نفسه، الذي تتواجد فيه منذ شهرين طواقم الإسعاف والإغاثة لنقل الحالات الإنسانية الحرجة، التي تسمح سلطات النظام بخروجها، إثر المبادرة الأهلية الثالثة التي لم يكتب لها النجاح، التقينا بالناشط في مجال الإغاثة، الشاب عبد الناصر منصور، الذي تحدث معنا عن مشاهداته للوضع الميداني داخل المخيم، فقال: "يعيش أهالي اليرموك داخل المخيم بين طرفي النزاع دون أن تكون لهم حرية التنقل، لأن المجموعات المسلحة السورية والفلسطينية في الداخل قامت بتقسيم المخيم إلى محاور، كل محور تسيطر عليه مجموعة معينة، أمنت نفسها بجدران اسمنتية، أو تلال رملية، وكتل حجرية، وأقامت حواجز تفتيش في أكثر من مكان..".
يضيف عبد الناصر: "هنا حقبة جديدة من الانحطاط الأخلاقي وتكلس المشاعر، وسيادة التوحش، فالناس تموت قنصاً وبكل أشكال القصف، حتى طائرات الميغ وصواريخ غراد وسكود والبراميل المتفجرة نالت منا، والأقسى هو موت الناس جوعاً، حيث قارب عدد شهداء الجوع 140 شهيداً -غالبيتهم من الأطفال والنساء والشيوخ- وهذا لم يحدث في أي من المناطق التي تقبع تحت الحصار في سوريا. ناهيك عن معاناتنا جراء انقطاع التيار الكهربائي منذ عدة شهور، ونفاد المواد الطبية وعدم قدرتنا على تسيير (مشفى فلسطين)، المشفى الوحيد الذي لم يتعرض للنهب من قبل المجموعات المسلحة نتيجة دفاعنا المستميت عنه، وبالتالي عجزنا عن إجراء أية عمليات إسعافية أو جراحية للمصابين جراء القصف المتواصل منذ قرابة العام. إننا نعيش أقسى عذابات الموت قبل النطق بالشهادتين وتسليم الروح".
وفي أحد الشوارع الخلفية لساحة الريجة، حيث تتجمع بعض الشخصيات السياسية الفلسطينية المناهضة للنظام السوري، والناشطة داخل المخيم للعمل على تحييده وإعادة الاستقرار والأمن له، التقينا بالسيد (ع ـ ش)، القيادي السابق في حركة فتح في المخيم، والذي رفض الإفصاح عن شخصه، وسألناه عن رأيه فيما يحدث في المخيم من وجهة نظره، فقال: "بعد أن فشلت مبادرات تحييد المخيم منذ فترة طويلة، وتحالفت ضده المجموعات المسلحة التي جاءته من كل الجهات مع إجرام النظام ذاته الذي لم يكن ينقصه المسوِّغ لقصف المخيم وضربه ومحاصرته، أستطيع القول إننا نعيش "هولوكوست" القرن الواحد والعشرين، والآن علينا المكاشفة والحديث بكل صراحة للرأي العام العربي والعالمي، وهو ما يدعوني إلى القول إن النظام السوري والقوى الفلسطينية المؤيدة له من جهة والكتائب المسلحة على تنوعها من جهة ثانية، يتحملون كامل المسؤولية عن محاصرة المخيم وتجويع من بقي من أهله.
يطلق الرجل، الذي عاش دهرا من عمره مقاوما في صفوف حركة فتح، تنهيدة مؤلمة قبل أن يواصل حديثه ويقول "إنّ جوهر المأساة التي نعيشها هي أن الكل لا يريد لأية مبادرة أن تنجح ، والسبب في ذلك استفادة الجميع من هذا الحصار، أما المسلحون هنا فإنهم لم يدافعوا عن المخيم وأهله بل إن مجموعات منهم نهبوه وسرقوا كل بيوته ومحلاته وجردوه من الغذاء والدواء ونقلوها إلى الغوطة ".
يضيف محدثنا: "لن أنسى ما قاله لنا أحد كبار الضباط في شهر يناير/كانون الثاني الماضي عندما التقاه وفد المبادرة الأهلية، الذي شكلناه لمفاوضة طرفي النزاع، حيث قال بالحرف الواحد "لا هدنة ، سنمنع عنكم الهواء أيضاً ، لا نريد أحياء داخل المخيم لأنكم كنتم حاضنة للإرهابيين، ووفرتم لهم أسباب الصمود ودعمتم وجودهم"، وعبثاً حاول أعضاء الوفد تفنيد هذا القول والتأكيد على حيادنا، غير أن النتيجة كانت رفض النظام لأية هدنة تقوي الطرف الآخر، حسب رأيه.
تتعاقب الليالي ويبدو أنه لا نهاية لمحنة مخيم اليرموك، و يطمع من بقي فيه على قيد الحياة في تدخل دولي من قبل الأمم المتحدة تدعمه منظمة التحرير، وتعمل على رعايته سياسياً بقرار عربي ملزم من قبل الجامعة العربية، وبموافقة المعارضة السياسية السورية، للضغط على طرفي النزاع المسلح بإنهاء التواجد المسلح داخل المخيم وبمحيطه".