أكثر من ألف مقاتل مغربي مجندون الآن مع التنظيمات الجهادية المتشددة في كل من سورية والعراق. وإذا كان مصير هؤلاء المقاتلين يشغل بال الدولة المغربية، التي اعتقلت حتى اللحظة 156 عائداً من جبهات القتال هناك، فإن ملف هؤلاء يعيد فتح جرح قديم لم يلتئم بعد، وهو ملف "الجهاديين المغاربة" المعتقلين في السجون العراقية بعد الغزو الأميركي للعراق سنة 2003 وإسقاط نظام صدام حسين.
فلا زالت عائلات هؤلاء تطالب بالكشف عن مصير أبنائها واسترجاعهم من السجون العراقية، التي يعيشون داخلها أوضاعا متردية وسوء معاملة، في وقت لا تظهر فيه الدولة المغربية أية نية لتحريك الملف جدياً، خصوصاً بعد تنفيذ حكم الإعدام قبل ثلاث سنوات في حق أحد المعتقلين المغاربة ووجود عدد آخر في قائمة المرشحين للإعدام.
يعيد "العربي الجديد" بناء القصة منذ البداية عن المغاربة، الذين طرقوا باب "الفردوس العراقي المزعوم" متأثرين بدعوات الالتحاق بـ"أرض الجهاد".
مأساة إعدام بدر
"سأسعدك يا أماه ... سأفرحك يا والدتي " كانت هذه آخر كلمات نطق بها بدر عشوري، في آخر مكالماته الهاتفية مع والدته فاطمة، قبل أن تنقطع أخباره نهائيا عن أهله لمدة سنتين كاملتين. لم يكن واضحاً بالنسبة لعائلة بدر آنذاك ما الذي كان يقصده بكلامه المتقطع، وهي التي كانت تنتظر أن يعدل عن أوهامه الجهادية، التي دخل من أجلها أرض العراق ويعود لأرض الوطن في أقرب فرصة.
أمين، شقيق بدر، يذكر اتصال السجين التونسي يسري الطريقي، رفيق بدر، في الزنزانة، الذي زوده برقم هاتف يمكّن عائلته من الاتصال به في السجن، ويقول: "عرفنا آنذاك أنه موجود في السجن، لكنه بدا متماسكاً وطلب منا أن نطمئن عليه وألّا نقلق. وقال إنه بخير وإنه ربما يجري تسليمه قريباً إلى المغرب، وإنه لم يفعل أي شيء سيئ. لم أتعرف عليه في البداية فقد كانت لكنته قد تغيرت وأصبح يتحدث باللهجة العراقية ".
استمر بدر في التواصل مع عائلته إلى حين آخر اتصال هاتفي، قبل أيام قليلة فقط من تنفيذ حكم الإعدام فيه شنقاً. والدته "فاطمة" تعتقد أن ابنها لم يكن يعلم بأنه محكوم بالإعدام، رغم أن الحكم قد صدر بتاريخ 8 أغسطس/آب 2008. وتتابع: " لم يقل أشياء كثيرة، كان يردد دائماً أنه بخير وأنهم وعدوهم بإعادتهم إلى المغرب قريباً... قبل أن نصدم بخبر إعدامه". كان شقيقه آخر شخص اتصل به بدر، قبل أن تصله رسالة إلكترونية من صديقه التونسي تعلمه بنبأ تنفيذ حكم الإعدام في حق بدر في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2011.
كان بدر شاباً عادياً، تتذكر أمه والدمعة لا تفارق مقلتيها المتعبتين، كان إنساناً متديناً، لكنه لم يكن قَطّ متطرفاً أو إرهابياً. حصل على دبلوم في الكهرباء ثم انتقل للعمل في إسبانيا، في مدينة "بلنسية"، حيث يتواجد شقيقه وشقيقته. عاد من إسبانيا لقضاء عيد الأضحى سنة 2006، ويتزامن ذلك مع إعدام الرئيس العراقي السابق، صدام حسين، في فجر عيد الأضحى في الثلاثين من ديسمبر/كانون الأول من ذات السنة. وبعد أشهر فقط من عودته إلى إسبانيا، انقطعت أخباره تماماً عن عائلته، فقد أخبر شقيقته أنه مسافر إلى تركيا لقضاء عطلة نهاية الأسبوع، ليعود إلى الدار البيضاء مسجى داخل تابوت بعد سنوات.
عندما اتصل بدر بالعائلة للمرة الأولى، أخبرهم عن تواجده في العراق لغاية "جهاد الأميركان"، لكنه ما لبث أن اصطدم بحقيقة أوهامه الجهادية، واكتشف أن ما اعتبره تنفيذاً لنداء الرب لم يكن سوى تغرير به واستغلال لسذاجته، وانجذابه إلى الشعارات الرنانة والحماسية. شعر أنه تعرض لـ "خديعة كبرى" كما سيؤكد ذلك بنفسه في اتصالات لاحقة مع شقيقته المقيمة في إسبانيا.
اعتقل بدر في 25 ديسمبر/كانون الأول من سنة 2007 من طرف القوات الأميركية، لينقل بعدها للتحقيق في مكان يطلق عليه "المحاجر السود"، ثم نُقل من سجن كروبر في مطار بغداد، الذي كان يشرف عليه الأميركيون والذي كان يحظى فيه بمعاملة مقبولة نسبياً، إلى سجن بوكا في مدينة البصرة، ثم إلى سجن ببغداد، بعد قرار الأميركيين تسليمه للحكومة العراقية في أغسطس/آب 2009، ثم نقل إلى سجن الناصرية، الذي كانت فيه المعاملة سيئة جداً للسجناء، وكان آخر سجن مكث فيه العشوري هو سجن الشعبة بالكاظمية، والذي قضى فيه حوالى السنة، حيث تحسنت ظروفه وقويت آمال عائلته بعودته لاستكمال سجنه في السجون المغربية. لكن حبل المشنقة العراقية كان أسرع ونفذ حكم الإعدام ببدر بشكل مفاجىء بعد أيام فقط من زيارة ممثلين عن الصليب الأحمر الدولي له في سجنه.
هلع العائلات
عائلة المعتقل المغربي، محمد إعلوشن، تعيش بدورها حالة خوف دائمة، بسبب ورود اسم ابنها على قوائم الإعدام، وتخشى أن يلقى ابنها ذات مصير بدر العشوري. وتقول والدة محمد بحزن " أريد ابني، أنا خائفة عليه، ابني مسالم ولا يؤذي أحداً وإن كان مذنباً فليخبرونا ماذا فعل، فهل تهمة دخول العراق بطريقة غير شرعية تستحق حكم الإعدام؟ ".
ياسين، أخوه الأصغر، لا يذكر من اتصالات أخيه محمد سوى حكايات التعذيب والترهيب النفسي والجسدي التي ذاقها محمد في السجن، ويقول: "محمد يعيش وضعية مزرية، عندما اتصل بي كان في سجن الناصرية وهو سجن سيىء السمعة، بالإضافة إلى أنه في مدينة شيعية وهم ينتقمون من السنة. على الدولة أن تتدخل في أسرع وقت، لقد مللنا الوعود الدبلوماسية، أخي والمعتقلون المغاربة الآخرون هم أبناء هذا الوطن وإن أخطؤوا فَجَلّ مَنْ لا يخطئ وعفا الله عمّا سلف".
وكان إعلوشن قد سجن قبل ذلك لمدة سنتين على خلفية الاعتقالات التي تبعت أحداث الدار البيضاء الإرهابية سنة 2003، وبحسب ما رواه عدد من أفراد عائلته، لـ "العربي الجديد"، وجد إعلوشن صعوبة في استعادة حياته العادية والعودة إلى نمط العيش الطبيعي بعد مغادرته السجن، بسبب استمرار مطاردة الأجهزة له، والتضييق عليه والمراقبة الدقيقة لخطواته. قبل اعتقاله كان دَخْلُ محمد مرتفعاً لكن بعد الاعتقال لم يعد قادراً على توفير المال. وأخبر عائلته وزوجته أنه ذاهب لإسبانيا لتجريب حظه مرة أخرى، وليس أكيداً إن كان قراره بالذهاب إلى العراق قد اتخذ مسبقاً أم بعد الرحيل إلى إسبانيا.
وكشف عبد العزيز البقالي، المنسق العام لتنسيقية عائلات المفقودين والمعتقلين المغاربة في العراق، عن توصلهم برسالة مكتوبة بخط اليد منسوبة إلى محمد، غير أنها ليست بخطه الذي تعرفه عائلته بشكل جيد، مما بعث مخاوف لديهم من احتمال تعرضه للتعذيب، وتابع:" كان الصليب الأحمر قد أخبرنا بإمكانية زيارته في 19 مارس/آذار الماضي لكن هذه الزيارة لم تتم لأن السلطات العراقية فرضت شروطا تعجيزية".
محاكمات غير عادلة ؟
بحسب المعطيات، التي تتوفر عليها التنسيقية، فإن عدد المعتقلين الموجودين في السجون العراقية حالياً هو ثمانية معتقلين، فضلاً عن 35 مفقوداً. ويعتقد عبد العزيز البقالي أن الحكومة العراقية تعامل السجناء على أساس طائفي، وذهب أبعد من ذلك باتهامها بتلفيق القضايا لهم، ضارباً مثال شقيقه، عبد السلام، الذي كان محكوماً بالسجن لثماني سنوات انتهت سنة 2011 لكنه لا يزال مسجونا إلى غاية اللحظة. ويستطرد عبد العزيز عن شقيقه، الذي اعتقلته القوات الأميركية سنة 2003 وقضى فترة في سجن أبو غريب: " كنا ننتظر جميعاً عودته لكننا فوجئنا بحكم يضيف إلى مدة عقوبته خمس سنوات، وصعقنا ونحن نراه يظهر على التلفزيون العراقي، معترفاً بأنه المسؤول عن خلية إرهابية خططت لتنفيذ هجمات إجرامية في بغداد".
وهناك أيضا حالة المعتقل، عز الدين بوجنان، الذي كان من الممكن أن يستفيد من عفو عام، كما استفاد منه سجناء عرب آخرون لهم نفس تهمته، لو تقدمت الحكومة المغربية بطلب رسمي، لكن مراسلات عائلة بوجنان للحكومة لم تجد أي رد. ويرفض والد بوجنان تصديق أن ابنه سافر إلى العراق بهدف القتال، مشيرا إلى أنه ذهب بحثاً عن العمل، ويكمل والده: " لقد تعرض لضغوط ومعاملة سيئة في السجن، وأصيب بمرض السكري، وأتمنى أن تتدخل الدولة المغربية".
دور الدولة الغائب
محمد حقيقي، ممثل الرابطة العالمية للحقوق والحريات بالمغرب، والذي يتابع هذا الملف منذ بدايته، يرى أن هذا الملف استمر لمدة طويلة من الزمن، ويسترسل: "هذا الملف ينطوي على معاناة عائلات وأسر تحت ضغط الحالة النفسية التي يعيشونها وتداعيات اجتماعية تعمق مأساتها الإنسانية، خصوصاً أن هذه العائلات محرومة من حقها في التواصل المستمر وزيارة ذويها المعتقلين، ومحرومة كذلك من معرفة مصير المفقودين، هذا الإهمال من طرف الجهات الرسمية المعنية بالمغرب ترك السلطات العراقية تجتهد بعيداً عن أية رقابة، وشجعها على الإقدام على ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في حقهم".
وطالب حقيقي المغرب بالاقتداء بما قامت به السعودية، التي عملت على استرجاع معتقليها بالعراق، داعياً إلى تفعيل اتفاقية الرياض للتعاون القضائي رقم (36) لسنة 1983، خصوصاً الباب السادس تحت عنوان (تسليم المتهمين والمحكوم عليهم)، واعتبارها إطاراً مرجعياً في الموضوع، وكذا تكوين خلية من المحامين والحقوقيين وممثلي العائلات تحت إشراف وزارة الخارجية المغربية، للتباحث مع السفارة العراقية في المغرب، وتمكين اللجنة من زيارة المعتقلين بالعراق والاطلاع على وضعيتهم داخل السجون، والشروع في إجراءات التسلم، وتنظيم زيارات العائلات في انتظار إيجاد حلّ للملف. وختم بالقول:" لا توجد دولة تحترم نفسها تترك مواطنيها المعتقلين أو المفقودين يواجهون مصيرهم خارج أرضها".
وتخشى عائلات المعتقلين المغاربة في العراق من تعرض أبنائها لعمليات انتقامية بعد التطورات الأخيرة، التي عرفتها الساحة العراقية. ويصف البقالي الوضع الذي يعيشه السجناء المغاربة في العراق بأنه مخيف للغاية، متحدثاً عن "المليشيات الشيعية"، التي تتحكم في السجون، وقال:"الأوضاع التي يعيشونها مأساوية وطائفية. أما السجون، التي يتمركزون فيها، فهي 3 في التاجي واثنان في الناصرية وواحد في السليمانية".
اقرأ أيضاً:خبراء: التهميش والبطالة يدعمان تطرف الشباب العربي