ما أن تذكر أبو ظبي، حتى يتبادر إلى الأذهان الحصن المنيع في حينه: قصر الحصن. كان مثل الفنار الذي يدل السفن التائهة إلى المدينة التي تتكون بيوتها من أحجار المرجان، وسطوحها من سعف النخيل، كأنها عمارة خارجة من أعماق الأرض، فليس فيها عنصر دخيل، كأن الحصن يغذي نفسه بنفسه. تلك هي لمسات أيادي البنائين الذين عملوا، في درجات حرارة قاسية، من أجل تشييد هرم الصحراء، كأنهم يسقون تربتها بعرق جباههم وصدورهم، وهم يواجهون الشمس الحارقة. كان المبنى علامة فارقة في تلك الفيافي، أول بناء من الحجر المصفوف بعناية هندسية غاية في الإتقان والتنظيم. كانت الفطرة تقود البنائين إلى بناء هذا الحصن الذي يرى مرآته في البحر، قلعة حربية تخيف الأعداء، وملجأ حميمياً للأصدقاء. ولأن البناء شاهق وبارز في ذلك الفراغ، وكل كتلة تسترعي العين الناظرة، أصبحت مركزاً للحكّام وداراً للسلطة. ومجرد وجود هذا المبنى يجعل الخوف يتسرب إلى قلوب الأعداء. فوجد آل بوفلاح أنفسهم في هذا المكان الذي سرعان ما أصبح مقراً لقبيلة بني ياس نهاية القرن الثامن عشر. كانت تستمد السلطة من هذا الحصن، كما يستمد الحصن السلطة من الشيوخ. عملية تبادلية لا نظير لها جعلت السلطة رمزاً، بعد أن كانت كلمات تتداولها الرياح في أطراف الصحراء. آل نهيان وجدوا في هذا الحصن ملجأً وفناراً. آل بوفلاح حكموا منذ عام 1795 وحتى 1966، وفي أثناء هذه الفترة، شهدت أبو ظبي تغيرات مهمة في تاريخها.
ويكشف المخطط الأرضي للحصن عن شكل مستطيل وبرجين أسطوانيي الشكل، متقابلين قطرياً، يقعان في الزاويتين الشمالية الشرقية، والجنوبية الغربية على التوالي. يصل بين البرجين البارزين سور الحصن الخارجي، ويظهران وكأن كلاً منهما بناء ذو طابق واحد.
لم يكن الحصن مركزاً للسلطة، تصدر منه الأوامر السامية، بل هو أيضاً مجلس ومجالس، لأن الحكم كان يُدار بين الناس، لا أن يصدر من قمة الهرم، لأنه بحاجة إلى التفاهم مع الناس، والتعبير عن احتياجاتهم. كان بقاء الحصن يعني بقاء الحكم وبقاء هذه المدينة التي أصبحت عاصمة الإمارات، وقطبها الرئيسي. كان الناس ينجذبون إلى قصر الحصن، باعتباره قطعة معمارية، وآية فنية، امتدت لها أيادي الإيرانيين والتونسيين من أجل ترميمه، وإعادة الألق التراثي له، بكل مهارة واتقان: ألوان، وأقواس وميداليات ونقوش زهرية، وأشكال لطيور الطاووس، ورسومات إسلامية أخرى يعج بها الحصن. وكذلك نوافذ وأبواب، مستطيلة ومربعة، وذات أشكال تتناسب مع هذا البناء الأسطواني الذي قلّ مثيله. وهناك ممرات تمتد إلى أبراجه وغرفه وأروقته العديدة.
لم تتوقف الإضافات على الحصن الذي يتخذ موقعه في قلب أبو ظبي، أضاف إليها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان دارين، خصص أحدهما لديوان الحاكم والآخر للأرشيف. وكل منهما يكمّل الآخر. وبما أن قصر الحصن يجسّد تاريخ أبو ظبي والإمارات، فقد مرّ بمراحل تاريخية، بناه شخبوط بن ذياب آل نهيان الذي حكم أبوظبي بين 1793 و1886، وحوّل مركز سلطة عائلته من ليوا إلى جزيرة أبوظبي، ثم أضاف له الشيخ سعيد بن طحنون (1845 – 1855)، وتمت إضافة رئيسية أخرى في عام 1939 خلال فترة حكم الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان (1928 – 1966). وعندما تداعى هذا الحصن، سارع المسؤولون إلى إجراء الترميمات اللازمة، فبدأت حملة ترميم الحصن الأخيرة عام 1979 واستمرت حتى 1985، وتجري منذ عام 1985 أعمال ترميم متواصلة، وكذلك أعمال ترميم في "التصميم الداخلي".
ليس قصر الحصن مكاناً متروكاً، شأن أبنية تراثية عديدة، فإقامة فعاليات مهرجان قصر الحصن، عشرة أيام، يبعث فضاءه من جديد، من خلال دلالات تاريخية عميقة تقدم لزوار المهرجان صورة معمارية وإنسانية نابضة بالحياة. يستعيد من خلاله الكبار ذكرياتهم، ويثقف الصغار ويطلعهم على تراثهم، ويروي حكايات الأجداد. ولعل وجود الحرس للحصن يمنحه حيوية خاصة، تعيد إلى الأذهان دورهم في سالف الزمن الغابر، حين كانت الرياح تصفر في آذان أولئك الحراس الذين لم يكن يتوقعون أن تتحول عاصمتهم إلى كبرى المدن المتطورة الحديثة...آنذاك، عندما كان قصر الحصن البناء الوحيد في صحراء مترامية الأطراف.