قصة حبّ غير معلنة

30 ديسمبر 2014
+ الخط -
لم يخطر في بال الفنان الايطالي أنجولو فانيتي، أن نهاية تمثال نبع الحياة أو الغزالة والمرأة العارية، سيكون هدفاً لرصاص من عيار 14.5 يخترق خاصرتها النحيلة، التي جلس يتأمّل طويلًا موديله الفتاة الفزانية الليبية حتّى أنجزها، كما تقول بعض الروايات، ليخلد قصة عشقه، وهي حكاية غرام غير معلن، لا يعرفه كثيرون من العامّة، إن بعض الفنّانين ينكرون الحكاية، ربما تحيّزاً للفنّ الخالص، أو لئلا تثير جدلًا ولغطًا حول أسباب نحت هذا التمثال، وأرى أن أسبابًا خفيّة جعلتها طيّ الكتمان، إلا لمن كان يبحث عن أصل الحكاية بفضول عاشقٍ لهذا الجمال.
منحوتة نبع الحياة، لم تشتهر بهذا الاسم بل دُعيت الغزالة، وهي منحوتة برونزية لحسناء عارية تمامًا تستندُ بجذعها إلى غزالة، ترتفع رقبتها عاليًا.
تحاول يد المرأة ملامسة رقبة الغزالة باليد اليمنى، بينما يدها اليسرى منفرجة إلى أقصى مدى ومستندة إلى القاعدة. يقال عنها الغزالة، ويتجنّب الجميع ذكر المرأة العارية، فيما تفرض وجودها في ميدانٍ صغيرٍ يلتقي مع شارع (أدريان بلت) بشاطئ البحر. تحيط بالمكان دوحةٌ من أشجار النخيل السامقة، وقريبًا منهم حديقة البرلمان المزدهرة بالأشجار دائمة الخضرة. شكّل هذا المشهد المحيط بالتمثال، أيقونة لمدينة طرابلس. وبُنيت حول التمثال بركة مياه، تنطلق نوافيرها عاليًا، طيلة النهار لتخفي معالم العري.
نُقلت تماثيل ومنحوتات أخرى، للفنّان نفسه إلى أماكن لا يراها ولا يلتفت إليها كثيرٌ من المارة، وهي عبارة عن حيوانات ضارية في لحظة عراك. وتقول الباحثة الأستاذة أسماء الأسطى حول تاريخ منجز الفنان وبعض أعماله: "ولد في مدينة ليفورنو في السادس من شهر كانون الأوّل/ديسمبر عام 1881، وتخرّج في عام 1900 من أكاديمية الفنون الجميلة في فلورنسا. ثمّ سطع اسمه كنحّات معروف في المشهد الفنّي الإيطالي في القرن العشرين؛ من خلال تنفيذه لأعمال برونزية من مجموعات ملك إيطاليا، ومشاركاته في المعارض الفنّية المحلية أو خارج إيطاليا، أيضا بداية ببينالي باريس، وانتهاء بالصين واليابان وأميركا الجنوبية.
فاز في عام 1929 بالمسابقة الدولية لإنجاز نصب تذكاري من الرخام ZAYS بارتفاع 18 مترا في هافانا في كوبا، ونال عنه التكريم، وتمّ تعيينه عضوًا فخريًا في أكاديمية التصميم، ثم أمينا عامّا لها، إلى أن تمّ تكليفه ليصير "قنصلًا فخريًا" في باناما عام 1947.
تعد نافورة ومنحوتة "نبع الحياة" أو "الغزالة" من أهمّ أعماله المحلية المنحوتة من البرونز، التي أنجزها عام 1932 لحسناء "فزّانية" عملت كموديل لمنجزه الفني. وهي تتوسط الطريق المحاذي للكورنيش القديم، إلى جانب تمثالٍ آخر يعكس أغلب أعماله التي تتشابك فيها "حيواناته" في قتالٍ ضار، مثلما تجسّده منحوتة أسماها "ضراوة"، وهي تمثل لبوتان تتقاتلان. وقد شهد هذا التمثال ثلاث تنقّلات من موضعه خلال العهود المتلاحقة. فكانت اللبوتان تتقاتلان في البداية مقابل مبنى السراي الحمراء. ثمّ نقلتا إلى وسط حديقة الغزالة. وأخيرًا انتهتا إلى حديقة "قبور بنات القرمانلي" في طريق الشطّ بجوار مقرّ وزارة الخارجية منذ عقود.
أمّا أهمّ منجزٍ من منحوتاته الرخامية، فيتمثّل في "جداريات" تقع ضمن مبنى بمنطقة "الدافنية" في مصراتة، ولا معلومات حول مآلها".
الحديث حول الغزالة ذو شجون بالنسبة لمن تمثّل له، تجسيدًا لذاك الخروج السافر على المقدّس الديني، والمقدّس الاجتماعي أيضًا. ولطالما طرح زائر طرابلس السؤال الآتي: "كيف تقف هذه المرأة بكامل عريها شامخةً في وسط المدينة المحافظة؟".
كانت "الغزالة" تلقى كامل الاهتمام والرعاية من بلدية طرابلس، وكانت تتمّ صيانتها بشكلٍ دوري.
من ذكرياتي الشخصية والخاصّة، محبتي العميقة لهذه المنحوتة، بعد أن امتلكت سرّها وما اعتقدته من خفايا حدّثني عنها صديق ادعّى معرفته بأسطورةٍ تُروى عن ذاك الغرام، وبأن الفنّان الإيطالي فانيتي، كان يتجوّل في المكان نفسه الذي سمّي في ما بعد شارع أدريان بلت. كان المكان عبارة عن (سواني) وهي تعني مزارع، تشكّل امتدادًا لما يسمّى سوق الجمعة، ويقطنها الفلاحون وسكّان المنطقة، وتنتهي عند تلك المنطقة تماماً، قبل أن تلامس المعمار الحديث، حيث توسّعت مدينة طرابلس، وبدأت تغزوها الأبنية الشاهقة المشرفة والمطلّة على شاطئ المتوسط.
في ذلك الزمن، وعند تلك المنطقة، وأثناء مروره بين أشجار النخيل، التقت عينا فانيتي بفتاة شابّة، تجلس حزينةً، وبجانبها غزالةٌ مصابة بجرحٍ عميقٍ في ساقها. كانت الحسناء الشابّة تبكي غزالتها، وليس لديها أمل بشفائها. تأثّر أنجولو بالمشهد أوّلًا، ثمّ عندما تحدّث مواسياً الشابّة الجميلة، وقع في غرامها، وطلب منها مقابل مداواة الغزالة وشفائها أن تصبح موديلًا له، وأن تقف أمامه بكاملِ بهائها وعريها، لينحتَ جسدها الممشوق ووجهها الآسر.
هكذا وُلدت المنحوتة من رحم قصّة غرام بين فنان إيطالي وفتاة ليبية، قيل إنها من مدينة فزّان الواقعة في عمق الصحراء.
لذا لم يكن مستغربًا أن يتمّ تجاهل التمثال، وأن يبدّل اسمه، حفاظًا على سرّ الحبّ المحرم، حتّى لو انتصبت قامة الشابّة العارية رمزياً أمام ملايين المارة. واعتقد الكثيرون بأن جمال التمثال وتفرّده كفيلٌ بنسيان ما خلّفه من غرام. بيد أن فضولي قادني للسؤال عن بقية القصّة، لأكتشف أن الفنان الإيطالي أنهى مجموعة أعمال أخرى لا تقلّ جمالاً عن نبع الحياة وسافر بعد ذاك إلى بلاده.
لكن الانتقام أتى متأخّراً، وعلى يد متشدّدين يحملون السلاح اليوم، فكانت البداية بإطلاق الرصاص على "الغزالة"، ومن ثمّ اختفاء التمثال، من دون أن يتركوا أي أثر وراءهم أو يعترفوا بجريمتهم.
الاختفاء القسري، الذي طال كثيراً من الليبين، امتدّ ليطول هذه القيمة الفنّية الجمالية العالية أيضاً. وكانت ردود الفعل من المثقّفين والفنّانين الاستنكار والكثير من الوعود بأنهم سوف يعيدون نحته من جديد، وأنه وسيقف مرّة أخرى في مكانه.
لكن متى يحدث هذا؟ لا أحد يعلم.
طال الاختفاء بقية منحوتات فانيتي، وتمّ نزعها بالقوّة من الحدائق مقابل وزارة الخارجية. لم تبقَ المنحوتات إلا صوراً في الذاكرة وقصّة حبّ غير معلنة.
المساهمون