عام 2075، سأكون قد بلغت من العمر 95 عاماً، هذا إذا ورثت جينات طول العمر من جدّتيَّ لأُمّي وأبي. على الأغلب، ستكون أعضاء جسدي تعمل كماكينة مهترئة يحتفظ بها الناس من باب الوفاء للأشياء القديمة. وفي أفضل الأحوال، سيحيط بي الأبناء والأحفاد منتظرين أن ينفّذ بي أمر الله. المهم حينها، بماذا سأهذي؟
"ستّي بهيّة" - جدّتي لأبي - ماتت والعالم ينتظر قدوم عامٍ جديد. تقول هويَّتها الشخصية إنها وُلدت يوم 1 كانون الثاني/ يناير 1921. لسنا متأكدين من ذلك، لكنّها ماتت بعد ذلك التاريخ بـ 94 عاماً بالتمام والكمال.
بردٌ شديد كان يلفحُ عمّان. ولم يكن بوسع العجوز التي تعلّمت من نكباتنا ونكساتنا، أنَّ النِّعم - كالأرض والبيت إلى زوال - أن تُشعل المدفأة لوقتٍ طويل، أو لدرجات أعلى. كانت تفكِّر على الأغلب أنَّه لن ينفعها سوى التوفير في ظلِّ ظروفٍ سيّئةٍ عايشتها، ولن يُفلِح ظرفا الزّمان والمكان الجديديْن في تغيير قناعتها أبداً.
في أيّامها الأخيرة، تهيّأ لها أنها في بيوت أبنائها الدافئة في مدينة أريحا. وكانت تحيل السبب في دفئها إلى أنّ جوَّ أريحا أدفأ من جوِّ الخليل، رغم تفضيلها الأخيرة دوماً، لتظن أنها تنتقل ما بين أريحا والخليل كلما تغيّرت عليها أجواء البيوت.
لفظت ستّي أنفاسها الأخيرة في عمّان، لكنّها كانت قد ماتت فعلاً - كما تعتقد - في الخليل.
قبلها بثلاث سنين، وفي ذات المدينة (عمّان)، ماتت "ستّي نورز" - جدَّتي لأمّي - التي كانت تحمل في حقيبتها المليئة بالأدوية صورة عن وصفة طبيّة احتفظت بها منذ كان عمرها 12 عاماً من طبيبها في يافا. كانت تلك أحد الأشياء التي تُشعرها أنَّ المدينة ما زالت مُخلِصةً لها. كما أنها إحدى الطرق التي استطعنا من خلالها تخمين عمرها؛ إذ كانت الوصفة مؤرّخة بتاريخ 1932.
لم نكن نشاهد ستّي نورز، إلّا وهي متسمِّرة أمام نشرات الأخبار. ولم تكن تجالسنا إلا لتحدّثنا عن البارود الذي دأبت تصنعه أيّام الانتداب البريطاني في فلسطين، والذي كانت تشترك مع الثوار في تهريبه.
جالت "ستّي" في أيامها الأخيرة في شوارع يافا. وكانت تنادي على محمد جمجوم، أحد الشهداء الثلاثة الذين أعدمتهم سلطة الانتداب البريطاني عام 1929، مردّدةً الأهازيج التي غُنّيت فور إعدامهم، من دون أن تنسى المرور بمدينة اللّد التي قضت بها جزءاً من طفولتها. كلُّ ذلك وهي ممدّدة على سرير المرض في عمّان.
تذكّرتُ جدَّة الشاعر الفلسطيني الهندوراسي رولاندو قطّان، وقد خرجت من فلسطين طفلةً في بدايات القرن العشرين. حين أصيبت بالزهايمر، عادت للحديث باللغة العربية، تماماً كما كانت تفعل قبل الشتات.
ماذا ستفعل فلسطين حين تفقد ذاكرة الجدّات؟ النساء اللاتي التقطن صورها وهَذيْن باسمها حتى الممات.
حين ترحلُ الجدّات، يغادر معهنَّ جزءٌ من التاريخ. ألبومٌ من صور "البلاد"، يُدفن في بلادٍ أخرى، وجزءٌ من الذاكرة يضيع.
الصور في ذاكرتي الآن، لا علاقة لها بالخليل التي أنتمي بالدم إليها، ولا بفلسطين التي أحمل هويَّتها كلاجىءٍ، نزعت عنه السياسات الدولية حقّ العودة.
- في عامي الخامس والتسعين، بماذا سأهذي؟
(ماناغوا/ نيكاراغوا)