قراءة خلدونية في كشف المستور

13 سبتمبر 2019
+ الخط -
... وأنا أكتب هذه السلسلة من المقالات حول العلاقات الأكيدة بين الاستبداد والظلم والطغيان من جهة والفساد بكل أشكاله ومبانيه؛ أثار أحدهم ممن علّق على ما أكتب أن هذا الكلام النظري لا يؤثر في الواقع ولا في عملية إصلاحه. وهي دعوى مردودة، إذ يعد الكلام عن تلك القضايا المثارة في واقع بلداننا، في تراثنا الحضاري الذي يمثل أهم مكوّن في ذاكرتنا الحضارية، من الأمور المهمة التي تؤثر في عملية الوعي. وبرز آخر يشكك في التلازم بين الاستبداد والفساد، فكم من خبراتٍ تشهد استبدادا ولكنها تواجه الفساد؛ واستمر يدلّل على أن مواجهة الفساد إذا انتشر ربما تحتاج إلى حكم استبدادي يوقف فوضى الفساد وانتشاره، وكأن لسان هؤلاء ومن يلفون لفهم يطمئنون إلى المقولة التي ذاعت وشاعت، "أنه لا يصلح الشرق إلا مستبد عادل"، وأتذكّر أنني، في واحدة من سنوات تدريسي، أقمت مناظرة بين الطلاب حول تلك المقولة بين فريقين من المتناظرين. 
المهم في هذا الشأن أن هناك من صاروا يتعاملون بتساهلٍ مثل تلك النوعية من المقولات التي أراها سلبية وخطيرة على إدراكاتنا لقيمة الحرية، وتقدير مكانتها، ما جعل تلك المقولات تملك بعضا ممن يبرّر لها ويؤولها، بحيث يمرّرها بين شروحات تغريرٍ قد يصل إلى حد التزوير خبراتٍ يلتقطها من جغرافيا البلاد أن النمو والتنمية لا يتلازمان مع أجواء الحرية، وربما يشكل الطلب على الاستبداد، وفق هؤلاء، ضرورة من ضرورات التنمية ورفع معدّلاتها. وكل تلك المقولات وتبريرها إنما يشكل حالةً مسيّسة تبرّر ما هو أقسى، وكأن المقايضة تتم بين التنمية من جانب والحرية وحقوق الإنسان من جانب آخر. إنها مقايضة رخيصة وبائسة، تحت يافطة البحث العلمي والنظر المنهجي. وهذا لعمري ليس إلا تدليس على العلم والاستبداد بالمنهج ضمن منهجية الاستبداد ومحاولة تبريره، بالأرقام الضالة، وتبرئته من خطاياه المفضوحة.
ومبلغ هؤلاء من التفكير أن يبحثوا عن طرق الإصلاح الضال، أو الإصلاح معكوسا، يروجون وهم الإصلاح الزائف من تعوّدوا من خلال قابليتهم للتضليل والتغرير. ومن خلال هؤلاء الذين اعتادوا أن يكونوا في خدمة المستبد وطغيانه؛ يبرّرون كل أقواله وأفعاله وسياساته ومجمل طغيانه. وجدت فيما استجد ما قام به الفنان ورجل الأعمال المصري، محمد علي، الذي عمل مع سلطة الجيش المصري، ممن تصدّروا مشاهده، ومبلغ ما أشار إليه من فسادٍ صاحب استبدادهم بعد حكمهم وتحكمهم، وبعد أن سيطروا على معظم مقدّرات الاقتصاد ومجمل نشاطاته، ضمن عملية فساد كبرى، وكأن ابن خلدون، في رؤاه الضافية والبصيرة والرصينة، يتحدّث عن أصحاب السلطة المتصدّرين، فما بالك إن ملكت السلطة السلاح والمال، واستغلت سلطانها في الدولة والمجتمع.
ها هو ابن خلدون يوحي لنا وكأنه يقرأ الحدث، وما صحبه من تحالف شبكات السلطة والمال 
في إفساد مجالات الاقتصاد والمعاش؛ ضمن مقولة ذهبية "تجارة السلطان مضرّة بالرعايا، مفسدة للجباية"، وقبل إيراد مآلات ذلك من تحكّم وفساد، السلطان، في المفهوم المعاصر، يُفهم منه السلطان الحاكم، ويُفهم منه أيضاً نظام الحكم أو الحكومة. أمَّا الجباية، فهي دخل الدولة من الأموال أو ميزانيتها، وبالجملة ماليتها العامة، طبقاً لاصطلاح عصرنا. ويذكر ابن خلدون ذلك في مقام محاولة السلطان تعويض النقص في جبايته، فيعمد حيناً إلى فرض المكوس على مبيعات التجار للرعايا وعلى الأسواق، أو بزيادة المكوس، إذ كانت قد استحدثت من قبل، وامتكاك أي امتصاص عظامهم طبقاً لعبارة ابن خلدون، فتغوّل السلطان في مجالات الاقتصاد، ما لا يجمل به، ولا يستقيم معه رخاء الدولة ومصالح الرعية، ولا الوفاء بما يحتاج إليه بيت المال. ويدين ابن خلدون هذا السلوك من الحاكم ويُقبِّحه، ويقرر أنَّه "غلط عظيم وإدخال الضرر على الرعايا من وجوه متعدّدة"، أوردها ابن خلدون في الآتي:
- مضايقة الرعايا من الفلاَّحين والتجار، وممن يعملون في نشاط اقتصادي؛ لعدم التكافؤ بين رأس مال السلطان ورؤوس أموالهم المحدودة مما يدخل على النفوس من ذلك غما ونكدا.
- لا يجد السلطان من يناقشه في شرائه، فيبخس الأثمان على من يشتري منهم.
- كما يرغم التجار على شراء غلّاته، وغالباً ما تبقى تلك البضائع بأيديهم فترة طويلة، تحسّباً لتحسن السوق، فإذا دعتهم الضرورة إلى شيءٍ من المال، باعوا تلك السلع بأبخس ثمن. ويستطرد ابن خلدون في سياق هذا المقام قائلاً: "وربما يتكرّر ذلك على التاجر والفلاح منهم بما يذهب رأس ماله، فيقعد عن سوقه، فإذا انقبض الفلاحون عن الفلاحة، وقعد التجار عن التجارة ذهبت الجباية جملة، أو دخلها النقص المتفاحش". وهذا يبيِّن لنا مدى بُعد نظر ابن خلدون، حيث جاء زمن سيطرت بعض أنظمة الحكم على كل شيء، ومنع الناس من حرية البيع والشراء، وتثمير أموالهم، فكانت حال بعض الدول المعاصرة من الفقر والضنك والاستدانة. ويؤكد ابن خلدون على التنبيه إلى الخطر الناجم عن هذا السلوك، فيما يشبه الزجر والتنبيه قائلاً: "فافهم ذلك".
لم يفت على ابن خلدون إيراد الحل، والذي يتلخص في هذه العبارة: "إنَّ أوَّل ما ينمي الجباية 
ويثريها ويديم نماءها إنَّما يكون بالعدل في أهل الأموال، والنظر لهم بذلك، فبذلك تنبسط آمالهم، وتنشرح صدورهم للأخذ في تثمير الأموال وتنميتها، فتعظم منها جباية السلطان"؛ ومفهوم العدل في أهل الأموال عند ابن خلدون هو تأمين أموال الناس، وعدم مصادرتها، وإفساح المجال أمامهم للنشاط الاقتصادي والإنتاج، وعدم الغلو في فرض المكوس، ومراقبة السلطان أنصاره وحاشيته من مضايقة أصحاب النشاط الاقتصادي، فالاقتصاد ومجالاته، ومعاش الناس، على تنوعاته، ينشط حيثُ العدل والأمن والاستقرار، ويهرب ويختفي ويخمد ويكسد، حيثُ الظُّلم والفساد والفوضى والمصادرات.
كما ينبّه ابن خلدون إلى مخاطر أخرى، تؤدي إلى فساد الرعية واضطراب أحوالهم، وهو ما يقوم به بعض ذوي النفوذ، ويسمّيهم المتغلبين الذين يشترون السلع والغلّات من الواردين على بلدهم، ثُمَّ يفرضون لها من الأثمان المجحفة ما يشاءون، وهو ما يشبه، في هذه الأيام، أصحاب الوكالات الحصرية الذين يتمتعون بنفوذ اقتصادي واجتماعي، نتيجة الدعم السياسي الذي يحصلون عليه، سواء من داخل بلدانهم أم من خارجها، بواسطة ضغوط مختلفة، تمارس على الدولة، لإطلاق يد هذا الكفيل أو ذاك؛ فما بالك لو ارتبط الأمر بطبقاتٍ وشبكاتٍ بفساد مركب، ارتبط بتمويل ترفهم، فاجتمع لفساد طاول الرعايا بتحكّم أهل السلطة في المجال الاقتصادي إلى فساد يتعلق بترفهم وإنفاقهم، وفساد يتعلق بطبقة المنتفعين من طغيانهم وفسادهم؛ إنها قراءة خلدونية في الاستبداد فسادا، والفساد استبدادا.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".