24 أكتوبر 2024
قتل الآخر طريقاً إلى الجنة
ليست ظاهرة القتل الجماعي جديدة في التاريخ، لكنها ما تزال خاضعة للدراسة، لمعرفة من أين تأتي وحشية الإنسان في استئصال الآخر القريب، والقريب جداً. أمس، كان جارا وصديقا، وعندما ينفجر الصراع يصبح هذا الجار القريب موضوعاً للانتقام والاستباحة والاستئصال. والأسوأ أن يأتي القتل الجماعي والاستئصال بذريعة الدين والقيم الدينية. وهنا، يبرز السؤال: ما الذي يجعل الإنسان، أي إنسان، تحت عنوان واسع من "القيم والمثل الدينية العليا" أن يتحول إلى مجرم وجزار، ليس بحق العدو، إنما بحق النساء والأطفال والشيوخ من جيرانه وإخوته، وكل كائن بشري يقع تحت يد الجماعات في فرصة سانحة للذبح؟
بالطبع، هناك قوس واسع للأسباب والإجابات الافتراضات التفسيرية لهذه الظاهرة، التي يبدو أنها، حتى الآن، لا تجد تفسيراً جامعاً مانعاً. تبدأ هذه الأسباب من نظرية المؤامرة الخارجية التي تستهدف وحدة الوطن، مروراً بالتفسيرات الاقتصادية الاجتماعية من فشل التنمية وانتشار الفساد والبطالة وسحق الطبقات الوسطى.. إلخ، وصولاً إلى التفسيرات السياسية التي تقوم على احتكار السلطة وسحق السياسة وانعدام حرية التعبير والقمع المنظم للجميع.. إلخ. تجيب كل واحدة من هذه الأسباب على جزئية من ولادة ظاهرة القتل الجماعي، وكلها أسباب تكمن في خلفية ولادة جماعات القتل الجماعي، وبدونها ما كانت لتكون هذه الظاهرة، لكن الإجابة تبقى ناقصة، وغير شاملة، خصوصاً في ما يتعلق بتفسير "ظاهرة مجرم/ القيم" الفرد إذا صحت التسمية.
قد يصلح مفهوم "التعصب" لإضاءة جزئية إضافية في فهم هذه الظاهرة المرعبة التي توسعت في سورية والعراق في العامين المنصرمين، ومرجحة للتوسع أكثر، كلما زاد عنف الصراع. يأخذ التعصب أشكالاً متنوعة، وتتفاوت درجاته، وهو يُدخل المتعصب في دائرة العمى الاجتماعي، فيدفع المتعصب، في أغلب الأحيان، إلى دائرة الإجرام، وخصوصاً عندما يتحول إلى جامع مشترك، تشترك فيها جماعة ترى في الآخرين خطراً داهما عليها، ما يجعلها تجد كل المبررات الجدية والواهية لاستئصال الآخر لتجنب خطره.
هذا لا يعني أن ظاهرة التعصب فردية، على العكس هي حالة هيجان وهستيريا جماعية، تقوم على إلغاء كل عقل، وعلى تصغير الآخر وحيونته، لإخراجه من دائرة البشر، حتى يمكن قتله وتصفيته باعتباره نصراً. هذا يعني أن التعصب، كحالة عمى جماعية وفردية، بحاجة إلى شغل أكثر على الفرد، من أجل إعادة تحديد عالمه وتقسيمه بحدة إلى مجموعات تستحق الحياة وأخرى تستحق القتل، ويصبح الأداة المناسبة لتحقيق هذه المهمة، بإيجاد المبرر لقتل الآخر الذي لا يدخل ضمن نطاق الجماعة التي تصنع حول نفسها جداراً حديدياً في الصراع مع الآخرين المفترضين، الذين يتحولون، بين ليلة وضحاها، إلى هدف دموي، رجالاً وأطفالاً ونساء.
هذا الشكل الدموي للتعصب هو أقصى درجات العلاقة الإلغائية، ليس بمصادرة حق الآخر في التعبير، بل مصادرة حقه في الوجود في الحياة أصلاً، حيث يتم دخول دائرة القتل للتكفير عن جرائم وذنوب مفترضة، ارتكبها الضحايا، أو آخرون، الضحايا جزء من جماعتهم، من عائلتهم أو طائفتهم أو عرقهم.. إلخ، وهي جرائم وذنوب تفترضها خيالات المتعصب الجامحة إلى الدم، فبدونها لن يجد المتعصب الأسباب الكافية لقتل الضحية التي تستحق الموت، لألف سبب وسبب، بالمنطق الأعمى الذي يحمله. فالتعصب ينمو في مناطق مظلمة من النفس البشرية، نمت وتعززت من مصادر وأصول متنوعة. لكن، يتم إنتاجها عبر مجموعة من القيم الثقافية "الجديدة" التي تعيد إنتاج الإنسان بطريقة مشوهة، بصفته مالك "الحقيقة المطلقة" النازلة من السماء، والتي لا تدركها إلا الجماعة الضيقة المغلقة (الناجية)، والذي ينعكس إيمانها المطلق بعمليات إجرامية/ تطهيرية ضد الآخر الذي يتم تصنيفه كافراً ومرتداً أو مارقاً أو خائناً.. إلخ من الأوصاف السلبية، يشعر المتعصب من خلالها بالقدرة المطلقة التي يقتنع معها أنه من قلةٍ اختارها الله لإعادة الأمور إلى نصابها، بكل الوسائل الممكنة، ولم يعد هناك من وسيلة سوى العنف، بوصفه الأداة الأمثل لإنجاز المهمة.
من هنا، يضع المتعصب الآخرين في إطار غارق في السلبية والرذيلة، وينظر إليهم من خلال الحقد والاحتقار الذي يجعله يميل إلى إلحاق الأذى بالآخرين، أكثر مما يميل إلى تحقيق مزاياه الشخصية، أو كسب منفعة لنفسه. ما يُعزّي المتعصب، ويجعله مطمئناً إلى سلوكه هو اعتقاده بالانتماء إلى عقائد، لا يرقى إليها الشك، والتي تعمل على تحوّل في سلم القيم، يتيح للمتعصب أن يطلق أبشع غرائزه الوحشية ضد الآخرين، ويمنحه تفوقاً عليهم، لأنه على يقين مطلق بأنه حامل الشريعة المحقة التي تستحق التضحية بالنفس وبالآخرين، من أجل المثل العليا، فيتحول بذلك الإنسان إلى وسيلةٍ لإنجاز غاية تتجاوزه، وتتجاوز الضحية الفائضة عن الحاجة والخطرة.
بتحول التعصب إلى ثقافة جمعية ممأسسة، في إطار جماعات جهوية ضيقة، تأخذ عمليات القتل طبيعة منهجية ومخططة، وتتحول إلى عملية تطحن الآخر، وتطحن المجتمع. وتتوسع هذه الثقافة في الحالات المشوهة واليائسة والمحبطة التي يفرزها الواقع بتزايد كل يوم، وهؤلاء الذين يعاد إنتاجهم، بتلقينهم ثقافة التعصب، يتحولون إلى آلات للقتل من أجل القتل، فالقتل وسيلتهم للذهاب إلى الجنة، قتل النفس وقتل الآخر، في الوقت نفسه الذي يحملون على عاتقهم إنقاذ المجتمع وتخليصه من شروره وخطاياه. انحدار الحالة إلى هذه الهوة الظلامية يجعلها حالة مطلقة، لا يمكن الاقتراب منها من أي موقع من مواقع الحوار، فهي مكونة أساساً على أنها لا تسمع إلا صوتها. بذلك، يصبح أي كلام يقال صرخة في الفراغ، أو كما يتساءل فولتير: ما الذي يمكن قوله لشخص على يقين من دخوله الجنة، حين يقتلك ويقتلني؟
قد يصلح مفهوم "التعصب" لإضاءة جزئية إضافية في فهم هذه الظاهرة المرعبة التي توسعت في سورية والعراق في العامين المنصرمين، ومرجحة للتوسع أكثر، كلما زاد عنف الصراع. يأخذ التعصب أشكالاً متنوعة، وتتفاوت درجاته، وهو يُدخل المتعصب في دائرة العمى الاجتماعي، فيدفع المتعصب، في أغلب الأحيان، إلى دائرة الإجرام، وخصوصاً عندما يتحول إلى جامع مشترك، تشترك فيها جماعة ترى في الآخرين خطراً داهما عليها، ما يجعلها تجد كل المبررات الجدية والواهية لاستئصال الآخر لتجنب خطره.
هذا لا يعني أن ظاهرة التعصب فردية، على العكس هي حالة هيجان وهستيريا جماعية، تقوم على إلغاء كل عقل، وعلى تصغير الآخر وحيونته، لإخراجه من دائرة البشر، حتى يمكن قتله وتصفيته باعتباره نصراً. هذا يعني أن التعصب، كحالة عمى جماعية وفردية، بحاجة إلى شغل أكثر على الفرد، من أجل إعادة تحديد عالمه وتقسيمه بحدة إلى مجموعات تستحق الحياة وأخرى تستحق القتل، ويصبح الأداة المناسبة لتحقيق هذه المهمة، بإيجاد المبرر لقتل الآخر الذي لا يدخل ضمن نطاق الجماعة التي تصنع حول نفسها جداراً حديدياً في الصراع مع الآخرين المفترضين، الذين يتحولون، بين ليلة وضحاها، إلى هدف دموي، رجالاً وأطفالاً ونساء.
هذا الشكل الدموي للتعصب هو أقصى درجات العلاقة الإلغائية، ليس بمصادرة حق الآخر في التعبير، بل مصادرة حقه في الوجود في الحياة أصلاً، حيث يتم دخول دائرة القتل للتكفير عن جرائم وذنوب مفترضة، ارتكبها الضحايا، أو آخرون، الضحايا جزء من جماعتهم، من عائلتهم أو طائفتهم أو عرقهم.. إلخ، وهي جرائم وذنوب تفترضها خيالات المتعصب الجامحة إلى الدم، فبدونها لن يجد المتعصب الأسباب الكافية لقتل الضحية التي تستحق الموت، لألف سبب وسبب، بالمنطق الأعمى الذي يحمله. فالتعصب ينمو في مناطق مظلمة من النفس البشرية، نمت وتعززت من مصادر وأصول متنوعة. لكن، يتم إنتاجها عبر مجموعة من القيم الثقافية "الجديدة" التي تعيد إنتاج الإنسان بطريقة مشوهة، بصفته مالك "الحقيقة المطلقة" النازلة من السماء، والتي لا تدركها إلا الجماعة الضيقة المغلقة (الناجية)، والذي ينعكس إيمانها المطلق بعمليات إجرامية/ تطهيرية ضد الآخر الذي يتم تصنيفه كافراً ومرتداً أو مارقاً أو خائناً.. إلخ من الأوصاف السلبية، يشعر المتعصب من خلالها بالقدرة المطلقة التي يقتنع معها أنه من قلةٍ اختارها الله لإعادة الأمور إلى نصابها، بكل الوسائل الممكنة، ولم يعد هناك من وسيلة سوى العنف، بوصفه الأداة الأمثل لإنجاز المهمة.
من هنا، يضع المتعصب الآخرين في إطار غارق في السلبية والرذيلة، وينظر إليهم من خلال الحقد والاحتقار الذي يجعله يميل إلى إلحاق الأذى بالآخرين، أكثر مما يميل إلى تحقيق مزاياه الشخصية، أو كسب منفعة لنفسه. ما يُعزّي المتعصب، ويجعله مطمئناً إلى سلوكه هو اعتقاده بالانتماء إلى عقائد، لا يرقى إليها الشك، والتي تعمل على تحوّل في سلم القيم، يتيح للمتعصب أن يطلق أبشع غرائزه الوحشية ضد الآخرين، ويمنحه تفوقاً عليهم، لأنه على يقين مطلق بأنه حامل الشريعة المحقة التي تستحق التضحية بالنفس وبالآخرين، من أجل المثل العليا، فيتحول بذلك الإنسان إلى وسيلةٍ لإنجاز غاية تتجاوزه، وتتجاوز الضحية الفائضة عن الحاجة والخطرة.
بتحول التعصب إلى ثقافة جمعية ممأسسة، في إطار جماعات جهوية ضيقة، تأخذ عمليات القتل طبيعة منهجية ومخططة، وتتحول إلى عملية تطحن الآخر، وتطحن المجتمع. وتتوسع هذه الثقافة في الحالات المشوهة واليائسة والمحبطة التي يفرزها الواقع بتزايد كل يوم، وهؤلاء الذين يعاد إنتاجهم، بتلقينهم ثقافة التعصب، يتحولون إلى آلات للقتل من أجل القتل، فالقتل وسيلتهم للذهاب إلى الجنة، قتل النفس وقتل الآخر، في الوقت نفسه الذي يحملون على عاتقهم إنقاذ المجتمع وتخليصه من شروره وخطاياه. انحدار الحالة إلى هذه الهوة الظلامية يجعلها حالة مطلقة، لا يمكن الاقتراب منها من أي موقع من مواقع الحوار، فهي مكونة أساساً على أنها لا تسمع إلا صوتها. بذلك، يصبح أي كلام يقال صرخة في الفراغ، أو كما يتساءل فولتير: ما الذي يمكن قوله لشخص على يقين من دخوله الجنة، حين يقتلك ويقتلني؟