دفعت حوادث استهداف وقتْل المسيحيين في محافظة شمال سيناء، وتحديداً في مدينة العريش، الأسر المسيحية إلى الانتقال إلى محافظات أخرى خلال الفترة الحالية، بسبب عدم قدرة القوات المشتركة، من الجيش والشرطة، على مواجهة الاستهداف الممنهج لهم.
وقتل سبعة مسيحيين منذ مطلع فبراير/شباط الحالي في مدينة العريش، على يد مسلحين تابعين لتنظيم "ولاية سيناء"، التابع لما يعرف بتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). وكان أحدث تلك الهجمات استهداف المواطن كامل رؤوف كامل، مساء أول من أمس، أمام أسرته داخل منزله في حي الزهور. وقال شهود عيان إن المسلحين اقتحموا منزل كامل، الشهير بـ"أبو روماني"، وقاموا بمطاردته وقتْله فوق سطح منزله، ثم أشعلوا النار بالمنزل بعد هروب باقي أفراد أسرته. وقد أثارت الجريمة غضب الأهالي في سيناء، كما أثارت غضب كثير من فئات الشعب المصري عموماً، لا سيما وأن الاعتداءات على المسيحيين من سكان العريش تصاعدت مع بداية العام الحالي. وكانت مجموعة من العناصر التكفيرية قد اختطفت، فجر الأربعاء الماضي، سعد حكيم حنا (65 سنة) ونجله مدحت (45 سنة)، من منزلهما في شارع سلمان الفارسي في حي البطل بدائرة قسم شرطة ثالث العريش، وقاموا بإطلاق النار عليهما، ثم إشعال النار في جثة الابن لتتفحم الجثة تماماً. وفي 16 فبراير، قتل مسلحون بائع أحذية يدعى جمال توفيق داخل منزله. وفي 13 من الشهر ذاته، قتل الطبيب بهجت زاخر في حي العبور جنوب مدينة العريش، وقبلها بنحو أسبوعين قتل وائل ميلاد داخل محله وسط العريش.
هذه الحوادث، التي تؤكد الاستهداف الممنهج للمسيحيين في العريش، تكشف عن غياب السيطرة الأمنية على الأوضاع في تلك المدينة، التي نقل إليها التنظيم محور العمليات المسلحة. ولم يقتصر فقط على استهداف القوات المشتركة من الجيش والشرطة، لكنه توسع أيضاً في استهداف المسيحيين. ولا يمكن فصل قتل المسيحيين في العريش عن إصدار تنظيم "داعش" الأسبوع الماضي، شريطاً مصوراً يوثّق تفجير الكنيسة البطرسية، والتعهد بتنفيذ سلسلة عمليات تستهدف المسيحيين في مختلف أنحاء مصر.
وبحسب مصادر مسيحية، فإن ما يقرب من 50 أسرة مسيحية في مدينة العريش، بعضها ترك سيناء تماماً، والبعض الآخر سينتقل خلال أيام قليلة، خوفاً من استهدافها. وقال شيخ قبلي في سيناء إن توالي عمليات الاستهداف للمسيحيين تؤكد وجود رغبة حقيقية في تهجيرهم من سيناء تماماً، فضلاً عن إظهار الدولة على أنها لا تستطيع حمايتهم، لمحاولة إثارة غضب المسيحيين تجاه النظام الحالي. وأضاف الشيخ القبلي، لـ"العربي الجديد"، أنه لا يوجد مسيحيون في الشيخ زويد ورفح، لأن الأسر المسيحية انتقلت إلى العريش بشكل طوعي، مع اشتداد العمليات العسكرية في المدينتين، وبعضها انتقل إلى مدينة بئر العبد. وأشار إلى أن الأسر المسيحية في محافظة شمال سيناء قررت الانتقال إلى محافظة مجاورة، أو لدى أقاربها في محافظات أخرى، لكنها كانت تنتظر لمتابعة تطورات الوضع لناحية بسْط السيطرة وعودة الهدوء في العريش، إلا أن تصاعد العمليات المسلحة وتكرار استهداف المسيحيين، جعلاهم يعجّلون بقرار الرحيل. ولفت إلى أن بعض الأسر في مدينة بئر العبد قررت الرحيل عن سيناء أيضاً، رغم عدم استهدافهم، لكنهم يتوقعون وصول عمليات القتل لهم قريباً.
وشدد الشيخ القبلي على أنه خلال أيام قليلة سيتم الإعلان عن محافظة شمال سيناء خالية من المسيحيين، وهو ما يعد استمراراً للأزمة في سيناء، وطريقة التعامل السيئة للأجهزة المعنية مع المسلحين. وقال "قوات الجيش والشرطة تشن حملات أمنية على عدة أحياء في مدينة العريش منذ أشهر عدة، من دون توقف الاعتداءات في قلب المدينة. وكثّفت الحملات بموازاة استهداف المسيحيين لمحاولة إظهار وجود جهود حقيقية لوقف هذا الاستهداف، لكن على أرض الواقع هي محاولات فاشلة، لأن المسلحين لا يتواجدون في المدينة. ينفذون العمليات وينسحبون في هدوء تام من دون ملاحقة".
وفي يونيو/حزيران، قتلت عناصر تابعة لـ "ولاية سيناء" كاهن كنيسة ماري جرجس بالعريش، ويدعى القس روفائيل موسى، في المنطقة الصناعية خلال إصلاح سيارته. وبدأت عملية تهجير المسيحيين من مدينة رفح، في سبتمبر/أيلول 2012. حينها، قال كاهن كنيسة ماري جرجس، القس ميخائيل أنطون إنه تم تهجير 9 أسر من رفح إلى العريش، بناء على تعليمات محافظ شمال سيناء، اللواء عبد الفتاح حرحور، بعد تعرضهم للتهديد بالقتل، ومحاولة البعض إطلاق الرصاص على بعض المحلات المملوكة لهم. من جهته، قال باحث في الحركات الإسلامية، إن استهداف "داعش" للمسيحيين ليس كما يدعى لمشاركتهم في الحرب عليه، لكن هي محاولة لإثارة القلاقل في مصر، وزيادة الغضب المسيحي ضد النظام الحالي، باعتباره غير قادر على حمايتهم. وأضاف الباحث، لـ"العربي الجديد"، إن التنظيمات المسلحة تسعى لإثارة الفوضى وزعزعة أي استقرار حتى تحافظ على تواجدها، وتلعب على وتر الطائفية لإشاعة مناخ من التوتر الداخلي وعدم القدرة على السيطرة، وإنهاك أجهزة الأمن. وحذر من استهداف التنظيمات المسلحة للمسيحيين في محافظات أخرى، غير سيناء، مثلما حدث في تفجير الكنيسة البطرسية في ديسمبر/كانون الأول الماضي، مشدداً على أن التنظيم بدأ مرحلة جديدة من استهداف المسيحيين.
وقال الخبير الأمني، اللواء جمال أبو ذكري، إن الأجهزة المعنية بمواجهة الإرهاب تواجه تحدياً كبيراً، لناحية دعم هذه الجماعات المسلحة من قبل دول إقليمية - لم يذكرها-، لكن الدولة المصرية تحاصرها بشدة، لذلك تسعى لإثارة الفتنة. وأضاف أبو ذكري، في تصريحات خاصة، إن الأجهزة الأمنية تؤمّن الكنائس ودور العبادة للمسيحيين، عقب تفجير الكنيسة البطرسية، مع توسيع دائرة الاشتباه للعناصر المتطرفة، والعمل بقوة لرصد أي تجمعات للمسلحين. واعتبر أن حوادث قتل المسيحيين في سيناء لن تؤدي لفتنة طائفية في مصر كما تريد تلك الجماعات الإرهابية، لكن على العكس يزداد التماسك المجتمعي، لأن ضريبة الإرهاب يدفعها كل أبناء الشعب المصري، من قوات الجيش والشرطة والمواطنين، حتى تمر هذه الفترة العصيبة وزوال الإرهاب تماماً، الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة.
وبعد ساعات قليلة من سقوط الضحية السابعة من مسيحيي سيناء، توجه الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، إلى مقر أكاديمية الشرطة في القاهرة الجديدة، فجر أمس الجمعة، يرافقه وزير داخليته، اللواء مجدي عبد الغفار، وتفقّدا طابور الطلبة الصباحي، وتابعا تدريبات الإعداد البدني، ومهارات الفنون القتالية للطلبة. واطمأن السيسي على عملية إعدادهم والكفاءة التي يتمتعون بها، بحسب بيان رئاسة الجمهورية. وبعد انتهاء الطابور العسكري، شارك السيسي بعض طلبة الكلية في جولة بالدراجات الهوائية في شوارع منطقة "التجمع الخامس" حيث تقع الأكاديمية، تحت حراسة أمنية مشددة. وشهد السيسي بعد الجولة قيام عدد من الطلبة بما يسمى بـ"قفزة الثقة" في حوض السباحة الخاص بالكلية، ثم تناول إفطاره مع الطلبة والطالبات. وذكر بيان الرئاسة أن السيسي تحدث مع طلبة الكلية خلال الطابور العسكري والإفطار، ونقل إليهم تحيات كل المصريين لما يبذلونه من جهد استعداداً لتولي حماية أمن مصر، والحفاظ على استقرارها، مطالباً المصريين بالاطمئنان، ومؤكداً أن "الدولة المصرية قد عادت، وبمشيئة الله لن يستطيع أحد المساس بها".
تجاهُل السيسي لحوادث الاعتداء المتكررة على المواطنين المسيحيين، يدفع بخبير أمني، كان متخصصاً في مجال مكافحة الإرهاب وتحفّظ على ذكر اسمه، إلى القول، لـ"العربي الجديد"، إن السيسي يعتبر مسؤولاً عن تكرار حوادث قتل المواطنين في سيناء، خصوصاً المسيحيين منهم، مضيفاً إن سياسته الأمنية في سيناء تثبت يوماً بعد يوم أنها فاشلة. ويعتبر الخبير الأمني أن أحد أبرز أسباب الفشل الأمني في سيناء هو غياب التنسيق والتواصل بين الأجهزة الأمنية والأهالي، مرجعاً ذلك إلى طريقة الأمن العنيفة في التعامل مع السكان، وعمليات الاعتقال العشوائية لأبناء سيناء، حتى أن الأمر وصل إلى تصفية بعضهم بحجة أنهم من الإرهابيين، وهو الأمر الذي خلق حالة من الكُره الشديد بين الأهالي والأمن. سياسيون ونشطاء اعتبروا أن توجُّه السيسي إلى كلية الشرطة فجر أمس، وتجاهُل ما حدث في سيناء، يشير إلى عدم اكتراث بأرواح البشر التي تزهق يومياً على أيدي جماعات إرهابية. وأرجع محللون مسألة زيارات السيسي إلى الكليات العسكرية، إلى فقدان القدرة على التواصل مع الجماهير والخوف منها أيضاً، وهو ما يعبّر بوضوح عن عزلة يعيشها الرئيس داخل بلاده، مؤكدين أنه لا يحبّذ أن يخرج للناس في أماكن عامة ليلتقي بهم في مؤتمرات جماهيرية في المحافظات كما كان أسلافه يفعلون، وهو ما يجعله لا يجد مكاناً يتوجه إليه غير الأماكن العسكرية المحصنة.