قبضة أمنية في الجزائر: الخوف من الشارع بذروته

22 سبتمبر 2018
خلال تظاهرة للأطباء بالعاصمة الجزائرية في فبراير الماضي(فرانس برس)
+ الخط -
تتوجّه السلطات الجزائرية نحو فرض قبضة حديدية على الشارع، ومنع أي حراك سياسي أو شعبي قد يحصل، قبل أشهر على موعد الاستحقاق الرئاسي المقرّر في ربيع العام المقبل. وتستخدم السلطة الشرطة والقوة، فضلاً عن اعتقال الناشطين والنقابيين، لردع أي محاولة تستهدف تحريك الشارع ومنعها، تحت حجّة الحفاظ على الأمن والاستقرار، حتى وإن كانت المطالب اجتماعية صرفة لا علاقة لها بالشأن السياسي أو بالمطالبات بتغيير النظام.

وتتعدّد المطالب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الجزائر، وتتزايد مع تفاقم الأزمة المالية في البلاد، وإخفاق الحكومة في تجاوز مخلّفات تراجع أسعار النفط منذ ثلاث سنوات، وفي تحقيق نمو اقتصادي حقيقي، في ظلّ غموض سياسي بشأن مستقبل البلاد، عزّزه تفاقم قضايا الفساد وإحكام الكارتل المالي قبضته على جميع مناحي الاقتصاد المحلي.

وتدفع هذه الأوضاع بشكل مستمر إلى سلسلة من الاحتجاجات الشعبية والتحرّكات السياسية في الشارع، لكنّ السلطات الجزائرية تضع جميع هذه التحرّكات ضمن سياق سياسي تقول إنه يستهدف تقويض البلاد واستقرارها الداخلي، وتعتمد إزاء ذلك خياراً واحداً، وهو الخيار الأمني.

ولم يكن الحراك في منطقة الجنوب، ومسيرة يوم السبت الماضي غير المسبوقة التي شارك فيها الآلاف من سكان مدينة ورقلة للمطالبة بالتنمية وتحسين البنية التحتية وقطاعي الصحة والتعليم، يستدعيان أيّ تدخّل من قوات الشرطة التي حضرت بتعزيزات كبيرة، لكون المسيرة كانت على مستوى عالٍ من التنظيم والسلمية. إلا أنّ قيادة قوات الشرطة التي تحتكم إلى قرار سياسي يتحسّس من كلّ حراك شعبي في الشارع، أطلقت الغاز المسيل للدموع، في محاولة، وصفها الناشطون بـ"الاستفزازية"، قائلين إنها كانت تستهدف إخراج المسيرة والحراك الشعبي المطلبي عن مساره السلمي. لكنّ الناشطين الذين كانوا يشرفون على المسيرة، أبدوا تمسّكاً كبيراً بالطابع السلمي "لتفويت الفرصة على رغبة السلطة في أن يوفّر لها الصدام بين الشرطة والمحتجين الفرصة لاعتقال الناشطين واستخدام العنف ومنع أي حراك مستقبلي"، بحسب ما يقول الناشط في الحراك الجنوبي محاد قاسمي.

ويؤكّد قاسمي في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "مجرّد استقدام السلطات أعداداً هائلة من عناصر الشرطة في الشارع لتخويف المحتجين، سواء في ورقلة أو في أي منطقة أخرى، هو استفزاز في حدّ ذاته للمتظاهرين السلميين الذين كانت مطالبهم الاجتماعية واضحة". وأوضح أنّ "السلطة تحاول فرض واقع أمني مشدّد وقبضة حديدية على الشارع، لكنّنا متمسّكون بالسلمية ولدينا كل الوعي بما تفكّر فيه السلطة من جهة، وأطراف أخرى تريد استغلال الحراك الشعبي المطلبي من جهة أخرى".

وإضافة إلى مسيرة ورقلة جنوب البلاد، صادف يوم السبت الماضي "اليوم العالمي للديمقراطية"، لكن بدلاً من الاحتفال به، قامت الشرطة باعتقال العديد من قادة أحزاب سياسية وناشطين حقوقيين ومدنيين، بينهم رئيسة حزب "الاتحاد من أجل التغيير" زبيدة عسول، ورئيس حزب "جيل جديد" جيلالي سفيان، ورئيس "رابطة حقوق الإنسان في الجزائر" صالح دبوز، وذلك عندما كانوا يحاولون تنظيم لقاءات حوارية في وسط مدينة بجاية (600 كيلومتر شرق الجزائر) للدعوة سلمياً إلى التوحّد في تكتّل شعبي، للمطالبة بالتغيير السياسي في البلاد. وتمّ اقتياد هؤلاء إلى مراكز أمنية، قبل أن تفرج السلطات عنهم في وقت لاحق من السبت الماضي. ويعدّ هذا الإجراء ثالث تصدٍّ أمني، لنشاط في الشارع يحاول تنظيمه تكتّل "مواطنة" المعارض.

وقبل أسبوع من ذلك، شهدت مدن العاصمة وهران غرب الجزائر، وقسنطينة شرق البلاد، تعاملاً عنيفاً لقوات الأمن مع عائلات المفقودين خلال أزمة التسعينيات. ولم يمنع كبر سنّ الأمهات من عائلات المفقودين، قوات الشرطة من اعتقالهن واقتيادهن إلى مراكز للشرطة.

كذلك، لم يسلم الأطباء من عصا الشرطة التي تعرّضت لهم خلال الأشهر الأخيرة أكثر من مرة في عاصمة الغرب الجزائري وهران، على الرغم من اعتراف السلطات بشرعية مطالبهم. ونال المتقاعدون وجنود الاحتياط السابقون في الجيش أيضاً، نصيبهم من العصا الأمنية، قبل أسابيع قليلة، عند خروجهم إلى الشارع ومحاولتهم تنظيم وقفة احتجاجية في العاصمة الجزائرية، احتجاجاً على تردّي الأوضاع الاجتماعية وللمطالبة بتعديل قانون منح التقاعد.

وتضاف إلى ذلك، ملاحقات قضائية واتهامات سياسية توجّهها الحكومة إلى الناشطين بـ"العمالة" و"التحرّك وفق أجندات سياسية تستهدف زعزعة استقرار البلاد". واللافت أنّ السلطات الجزائرية، التي تبرّر قمع المسيرات والاحتجاجات في العاصمة بكونها تخضع لقانون حظر المسيرات الصادر في يونيو/حزيران عام 2001، تسوق المبرّر نفسه لتبرير قمع المسيرات والأنشطة الاحتجاجية ومنعها في المدن الأخرى. ويؤكّد هذا الأمر تمسّك السلطة بالخيار الأمني الصرف، في التعاطي مع التحرّكات والمطالب الشعبية من دون أي تصنيف لها أو تفريق بينها.

ولم يتردد حزب "جيل جديد" بالقول في بيان أصدره عقب اعتقال رئيسه، جيلالي سفيان، السبت الماضي، إنّ "السلطة تحاول استخدام كل أشكال العنف اللفظي والجسدي، ضد المتظاهرين والناشطين لترهيب الجزائريين، وهو ما يؤكّد تمادي النظام ومسؤوليته عن الفوضى عبر استفزاز المتظاهرين".

وتعليقاً على إجراءات النظام، يقول رئيس "الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان"، هواري قدور، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّ "أمنجة السلطة الجزائرية للشارع بشكل حادّ في الفترة الأخيرة، يعود إلى أنّ النظام لا يزال يتخوّف من التظاهرات، والسلطة تستحضر دائماً تجربة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ولا يزال لديها خوف من الشارع، خصوصاً من أن يسيطر الإسلاميون مجدّداً عليه. وكذا من تكرار مسيرة القبائل والأمازيغ في يونيو 2001، وهي لم تعد تفرّق في ذلك بين المطالب والمطالبين". ويوضح أنه "في ورقلة، جنوب الجزائر، كان حراك المتظاهرين سلمياً ومطالبهم الصحة وحقوق الإنسان والشغل والسكن، ولم يكن هناك أي مطالب سياسية، ومع ذلك السلطة لا تريد أن تترك لهم الشارع للتعبير عن مطالبهم. لاحظتُ أنّ الشرطة قامت ببعض التجاوزات، ولولا تعقّل المتظاهرين لوقعت كارثة".

ولم يحدث خلال أكثر من عقدين أن منحت السلطات الجزائرية ترخيصاً لطرف معارض أو نقابة مستقلّة، لتنظيم مسيرة أو اعتصام للتعبير عن موقف أو مطلب معيّن، حتّى عندما يتعلّق الأمر بدعم ومساندة القضية الفلسطينية. وتبرّر السلطات هذا المنع برواسب تتعلّق بفترة الفوضى خلال الأزمة الأمنية. وقد زادت مخاوف السلطة في الجزائر من الشارع بعد ثورات الربيع العربي عام 2011.

ويؤكد قدّور أنّ السلطة في قمعها تستند إلى "ترسانة من النصوص والتشريعات لمنع التظاهرات في المدن، منها التجمهر من دون رخصة، وغلق المؤسسات العمومية أو الطريق العام، كما تقدّم مبررات أخرى كالمخاوف من انزلاق الأوضاع على الصعيد الأمني في حال قيام تظاهرات في العاصمة. كذلك، تتهم وزارة الداخلية في بعض الأحيان المتظاهرين بعدم القدرة على تنظيم التظاهرات بشكل جيّد، وتقول بناءً على ذلك، إنها تخاف من انحراف هذه التظاهرات عن مسارها في حال حدوثها". ويشير إلى أن السلطة "تمارس في الوقت نفسه الكيل بمكيالين وتعتمد مقاييس مزدوجة، إذ تمنح التراخيص للأحزاب وفعاليات المجتمع المدني الهادفة لدعم السلطة والرئيس أو من أجل قضية أو موقف يخدم السلطة، في حين تمنع في المقابل ذلك عمّن ينتقد السلطة".

لكنّ الناشط السياسي المعارض، درويش عبد الرزاق، يعتقد أنّ "سبب أمنجة السلطة وإغلاقها للشارع في وجه أيّ حراك مطلبي، يرتبط بإدراكها وتقديرها الموقفَ بوجود احتقان شعبي كبير ومتعدّد الأسباب والخلفيات والمناطق، في ظلّ انسداد الأفق أمام الشباب وغياب الآليات الديمقراطية، وهو ما يدفعها إلى خنق كل محاولة للخروج إلى الشارع، حتّى لو تعلّق الأمر بمطالب الماء والكهرباء لسكان حي شعبي".

 

ربع مليون رجل أمني في الجزائر

وتستخدم السلطة في الجزائر جهاز الشرطة لصدّ الحراك الاحتجاجي. وقد تضخّم عدد رجال الشرطة بشكل كبير في البلاد خلال السنوات العشر الأخيرة. فبعد استقرار الأوضاع الأمنية في الجزائر عقب عام 2005، بدأت السلطات في مشروع إعادة هيكلة جهاز الشرطة وتعزيز صفوفه، بعدما تحوّلت التحديات الأمنية من محاربة الإرهاب إلى تعزيز الأمن الداخلي والمدني ومحاربة الجريمة، إضافة إلى متابعة الجماعات السياسية والمدنية.

وارتفع عدد رجال الشرطة من 60 ألفاً عام 1994، إلى نحو 209 آلاف حتى عام 2014، ومن المقرّر أن يصل إلى ربع مليون قبل حلول عام 2020. ويبلغ المعدل الحالي 425 شرطياً لكل ألف مواطن، وهو معدل مرتفع مقارنة بدول أخرى.

وفي رأي محللين، فإنّه إضافة إلى وجود مبرّرات تدفع إلى زيادة عدد أفراد الشرطة، وتركّز على المشاكل الأمنية في المناطق الحضرية، فإنّ الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة كان يتوخّى أن يؤدي رفع عدد رجال الشرطة، إلى إحداث نوع من التوازن في مقابل هيمنة الجيش وجهاز الأمن العسكري على المشهد الأمني في البلاد، ومنه التأثير في الوضع السياسي.