قبرنا الذي على الشارع

22 سبتمبر 2014
اشترينا القبر وحفرناه ثم طمرناه / Getty
+ الخط -
في نوفمبر/تشرين الثاني 2006، قرّرت العائلة أن تشتري قبرًا يتّسع لشخص واحد، ويكون إلى جانب قبر الشقيقة، التي ماتت في حادث سير.

كان ذلك الحلّ الوحيد، حتّى تكفّ الأم عن هذيانها وعدم تصديقها بأنّ البنت غادرت إلى الأبد. وفي لحظة صامتة قالت فجأة: "أهدأ فقط حين يكون لي قبر بجانبها".

وقد كان.

اشترينا القبر وحفرناه، ثم طمرناه، وزرعناه، ووضعنا الشاهدة البيضاء الفارغة.

لم تعد الأم تهذي بعد اطمئنانها على المثوى الأخير، وبات حزنها مؤطّرًا ومزمنًا، وبدا كأنّه قديم محفوظ في اللوح المحفوظ.

أوصيتُ حارس المقبرة على الزرّيعة الغضّة، وأن يسقيها وأن يمنع الأغنام من أكلها، وقدر الإمكان أن ينتبه من "سكرجية" منتصف الليل.

والحقيقة أنّ الحارس الشاب لا يستطيع البتّ في الأمرين: الأغنام التي ترعى نهارًا بين القبور، لأن جَرح مشاعر الراعي قد يكلّفه غاليًا، والسكرجية الشعبيين الذين يفضّلون المقبرة، لأنّ الأموات يؤمنون بالرأي والرأي الآخر، وبأنّ الأرض حقّ للجميع.

وعدني الحارس بأن يتفاهم مع الأغنام بالحسنى، سيكون ذلك في النهار، أما حين يحين الليل فإن السكرجية، بعدما يسكرون، غير موثوقين. بعضهم طيّبون، لكن في العتمة من يضمن ذلك؟
وروى لي حكاية الشاب، الذي قتل زميله في سكرة. هجم عليه بحجر وضربه مرّات حتى قضى عليه، وكان القتيل هو الوحيد بين أموات المقبرة، الذي نام في العراء.

وفي الصباح سأله الضابط: هو صاحبك؟ قال: صاحبي. قال: لماذا قتلته؟ قال: سيدي، قسما بالله ظننته ثعبانًا.

الضابط: كيف بني آدم وثعبان؟ القاتل: الدنيا ظلام سيّدي، ظلام، وفجأة كان شيء يتحرّك مثل الخيال وفحيح يقترب مني، فهجمتُ بالحجر، ولا أعرف ما حصل.

عدتُ بعد عام من الدوحة إلى الرصيفة، فوجدتُ شاهدة قبر الشقيقة مكسورة من أعلاها، وثمة رُبعيات ونُصيّات عَرَق مهشمة.

وقال الحارس إنّ اختيارنا للقبرين، قبر الشقيقة والقبر الفارغ، كان خطأ.

رأي الحارس فيه وجاهة، فلقد اخترنا القبرين ملاصقين للاستراحة الإسمنتية، التي يجلس تحتها المشيّعون، خصوصًا من الستين فما فوق. مشيّعون لا يقدرون على الوقوف طويلا، يراقبون الشباب وهم يدفنون الميت، ويوجهون النصائح وهم يسعلون.

اشترينا القبرين بعقلية عقارية وبسعر عال، وقلنا لمقاول الأموات: نريد قبرًا على الشارع. وأيّ متر على الشارع أغلى بالطبع من المناطق الداخلية. يستوي في ذلك الدكّان والقبر.

استراحة المشيّعين إذن مكان السكرجية في الليل البهيم.

كلّما رجعتُ إلى الأردن أعطي الحارس إكرامية وأزرع نباتات جديدة على القبر المشغول، وأطمئن على القبر الفارغ.
بيد أنني، في المرّة الأخيرة، فوجئت بما لا يخطر على البال.

وجدتُ القبر المشترى للأم موضّبًا، وعليه زرّيعة طازجة، وشاهدة لشاعر انتقل إلى رحمة الله.
التبست مشاعري حين رأيتُ شاهدة الشاعر الميت، ولم أشأ أن أسأل الحارس أسئلة حقوقية مثل: من الذي أعطى قبرًا اشتريناه من حُرّ مالنا لميت آخر؟ من الذي باع القبر مرّتين؟

استقرّ أمر العائلة أخيرًا على أنّ الأم هي الشخص الوحيد، الذي ينبغي ألا يعلم بما جرى.

وأكاد أقول - مع الاعتذار- إنّها لم تعد قادرة منذ سنتين على زيارة المقبرة بسبب العجز.
دلالات
المساهمون