لا تكتمل الصورة عن مجتمعات العراق وبلاد الشام من دون مقارنتها بمصر، ولا تأريخ للسياسة والاجتماع والثقافة "هنا" إلّا وألزم كاتبه بمفاضلة مع "هناك"؛ هجرة ولجوء فنانين وكتّاب عراقيين وسوريين منذ القرن التاسع عشر إلى القاهرة محدثين فارقاً نوعياً في الحياة والفن لم يستطيعوا لأسباب عديدة إحداثه في بيئتهم الأصلية.
ملاحظةٌ - لا يمكن تجاوزها – تتمثّل في أن نتاجات هؤلاء المهاجرين واللاجئين تجلّت بشكل فردي في الأدب والمسرح والسينما والصحافة والموسيقى كما في تجارب خليل مطران وجورجي زيدان ونجيب الريحاني وغيرهم، غير أن مصر كانت تستوعب تلك التجارب باختلافاتها وتعيد إنتاجها لتعبّر عن ثقافة جمعية موحّدة لا كإبداعات فردية.
في هذه الثقافة الجمعية الموحدة، التي وظّفتها سلطةٌ (أسرة محمد علي باشا) قامت بالتحديث من فوق إلى أسفل، يستقرّ المبدعون في تيارات وطبقات ومواقع ثقافية واجتماعية وسياسية، وتتجه الغالبية الفاعلة إلى تكريس آباء ونماذج، فتجري تسمية أحمد شوقي أميراً للشعراء، وطه حسين عميداً للأدب العربي ولا يغفلون عن تعميد محمود تيمور في القصة القصيرة.
يقابل ذلك ثقافة فردانية قلقة، في حواضر الهلال الخصيب، اتسمت بهذه الصفات منذ تعبيراتها الأدبية والفنية الأنضج إبّان الحكم العثماني، الذي مارس سطوة واستبداداً مبالغاً فيه على الصحافة والأدب، ما جعل مسار التحديث يكون من أسفل إلى فوق في مجتمعاتهم.
حضرت المؤسسة في النموذج المصري باكراً، سواء عبر القصر الملكي أو الأحزاب التي تأسست منذ نهايات القرن التاسع عشر وكان لها دورها البارز في الحياة السياسية، أو في الجامعة المصرية التي تمكّن الأساتذة الأوائل فيها من تطوير بناها التحتية والفوقية رغم وجود قوى شد عكسي متعددة، أو عبر الهيئات الثقافية التي أنشأها النظام مثل دار الأوبرا والمسرح الكوميدي ومطبعة بولاق والصحف ودار الآثار.
كرّست المؤسسات المصرية هيكلة وظيفية توازيها تموضعات لأصحابها في المجتمع والسياسة، ما أصبغ تقاليد وأعرافاً في مختلف مناحي الحياة، ومنها الثقافة التي اعتاد أهلها على وجود آباء ومؤسسين وأجيال وسيطة تنقل المكانة والاعتبار إلى أجيال أصغر وأصغر.
المتغيّرات السياسية في العراق والشام ثبّتت نقيض ذلك كلّه، إذ تأخر ظهور المؤسسة أو قلّ حضورها في فترة الاستعمارين البريطاني والفرنسي، ثم خضعت المؤسسات إلى حكومات الاستقلال في (العراق وسورية ولبنان والأردن)، لكن ما بدا بعد ستة عقود أن مشروع الدولة لم يغادر القبيلة بعد، مع فارق "بسيط" أن هذه القبائل تتحارب في العراق وسورية، وتتحاصص في الأردن ولبنان.
عند ذلك، ظلّ المشهد الثقافي في هذه البلدان الأربعة محكوماً بسلطة الأب الذي يُشتهى قتله، فينتهي الأبناء في المنافي واللجوء وحتى ولو بقوا في أوطانهم فإنهم يواصلون انقساماتهم واختلافاتهم على المكانة والدور والحضور.