قاطرة النائمات

22 فبراير 2017
من ترفع يديها بالصف تتجنب قاطرة النائمات(Getty)
+ الخط -
في الحقيقة أنني لم أنس، في يوم من الأيام، أن فصلنا الدراسي في المرحلة الابتدائية والإعدادية كان مثالا للتفرقة العنصرية، ليس بسبب أشكالنا مثلاً ولكن بسبب مستوياتنا التعليمية، وكانت المعلمات قد دأبن على اتباع أسلوب واحد في التفرقة ووافق عليه أولياء الأمور بلا تردد أو اعتراض. 

كان نظام الفصل كالعادة ينقسم إلى صفوف أربعة من المقاعد الخشبية المتصدعة، وكنا نطلق على كل صف اسم القاطرة، وكانت المعلمة "مربية الفصل" تختار القاطرة الرابعة والبعيدة عن باب الفصل لتكون مكانا لجلوس التلميذات ذوات المستوى المتدني دراسيا، واللائي لا يقمن غالبا بالمشاركة الجماعية في الفصل مثل الإجابة على الأسئلة، والكتابة على السبورة، وتقديم كراساتهن للتصحيح، حتى بتنا نعرف تلك القاطرة باسم "قاطرة النائمات".

أولياء الأمور أنفسهم وحين كان يقوم أحدهم بزيارة ابنته التي "تنام" في قاطرة النائمات، وبعد إلحاح وطلب من المعلمة وإدارة المدرسة، كانوا يؤيدون ما ذهبت إليه المعلمة من أن تقبع ابنة أحدهم في ذلك الركن المنزوي من الفصل والذي تختار له المعلمة غالبا أكثر المقاعد قدماً وتآكلاً، وتنتشر في قاعدة الجلوس المسامير البارزة التي تؤذي التلميذات المسكينات وتمزق زيهن بلا رحمة، بل ويتعرضن جراء ذلك للسخرية من زميلاتهن، بل إن الآباء والأمهات كانوا يتبعون مبدأ "اكسر وأنا أجبر"، وذلك في إشارة منهم لتشجيع المعلمات على ضرب بناتهن ومعاقبتهن بالجلوس في قاطرة النائمات، وكان التهديد بنقل تلميذة إلى قاطرة النائمات يعني التهديد بنفي رئيس مخلوع إلى جزيرة نائية.

مرت سنوات كثيرة وما زلت أذكر وجوه بعض التلميذات اللواتي كنّ ضمن تلك القاطرة، وكان مما لوحظ على مرتادات تلك القاطرة أن كل واحدة منهن لم تكن تكمل عامها الدراسي، بل تتسرب الواحدة منهن تلو الأخرى من المدرسة ليقوم أهلها بتزويجها بعد سنوات قليلة زواجا مبكرا، وقد التقيت بواحدة منهن بعد سنوات طويلة، لم أتذكرها ولكنها عرّفتني بنفسها بأنها "بنت القاطرة النائمة"، وكان أن افتتحت صالونا شهيرا للتجميل بعد زواجها في سن مبكرة واشتهرت بلباقتها وأناقتها وبأن سيدات المجتمع الراقي يرتدن صالونها ويفاخرن بأنهن من زبوناتها.
هذه الزميلة السابقة ابنة القاطرة النائمة هي واحدة من كثيرات تسربن من المدرسة بسبب عدم اهتمام أهلهن بتعليمهن، وكذلك قصور دور المدرسة في معالجة ضعف مستواهن التعليمي، والاكتفاء بإبلاغ الأهل بأنه لا أمل يُرجى في رفع مستواهن التحصيلي. وقد أثبتت الدراسات العالمية أن 63% من الطلاب المتسربين من المدارس حول العالم يكون السبب هو نفورهم من المدرسة كجهة طاردة لهم، وغير محفزة للتعليم، وأن معظم المتسربين يعانون من مشاكل نفسية تنعكس على المجتمع الذي لم يمنحهم الفرصة لكي يتقدموا في دراستهم، وجعل من قدراتهم العقلية مادة للسخرية والاستهزاء، وحوّلهم إلى ساخطين وناقمين، فالمتسرب من المدرسة سرعان ما يرتدّ إلى الأمية بسبب بعده عن القراءة والكتابة ولأنه أصبح يكره كل ما يمتّ لهما بصلة. 

ضحكت زميلتي السابقة وهي تزيح خصلة من شعرها المصبوغ باللون الذهبي وقالت لي: تصوّري كل هذا وأنا لا أجيد كتابة اسمي، لقد كرهت المدرسة ونسيت الحروف بسبب ما عانيته في قاطرة النائمات، وأردفت ساخرة: لديّ "ختامة" فخمة فوق مكتبي.

المساهمون