13 نوفمبر 2024
قاتلُ السّيدة
ربما هي المرة الأولى التي سأتحدّث فيها عن قاتل، وليس عن مقتولة، أي عن جانٍ، وليس عن مجني عليها، ولست أدري كيف أنني، حين سمعت بملابسات جريمةٍ بشعةٍ اهتزّ لها الشارع الفلسطيني، قد فكّرت بالقاتل كثيراً، وسرحت أمام حسابه على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، وتنقّلت بين كتاباتٍ كان ينشرها على حائطه الافتراضي، وتساءلت: كيف تحوّل هذا الشاب حليق الرأس، هادئ الملامح، والذي يتغنّى بحبّه وتعلّقه بطفلته الأولى الرضيعة، وقد امتلأ حائطه الافتراضي بالآيات القرآنية والأدعية، حتى تشعر بنفسك وكأنّك في حضرة ملاك، كيف تحوّل في يوم وليلة إلى شيطان؟
سرحت به كثيراً، ولم أفكّر بالمرأة التي دفعت حياتها ثمناً لجريمة قتلٍ بدافع السرقة، فالإعلام طالما تناول مثل هذه القضية التقليدية التي تدعنا حين نقرأ مثل هذا الخبر، نلوم الضحيّة، ونقول لمن حولنا: الحقّ عليها لأنّها لم تتأكّد من هوية الطارق على باب بيتها، وربما خدعها، لأنه جارها وتربطها بأمّه علاقة طيّبة، وربما تقع المسؤولية على الزوج الذي ترك زوجته وحيدةً في البيت، وهو يعرف أنّها تحتفظ بمصاغ قليلٍ في دُرجٍ مهملٍ من أدراج خزانتها.
لم أفلح بالتفكير كثيراً بالسيدة القتيلة، على الرغم من أنّها أمّ لأربعة أطفال، وعلى الرغم من أن الجريمة البشعة التي انتهت بتهشيم رأسها بواسطة أنبوبة الغاز، قد اكتشفتها طفلتها الصغيرة، فمرّ بخيالي مشهد الصغيرة وهي تصرخ، ثم مشهدها وهي تصرخ كلّ ليلةٍ، تستعيد فيها المشهد، ولا تجد حضن أمّها لكي يهدّئ من روعها، ويزيح الكابوس من مناماتها، لأنّ أمّها بطلة فيلم الرعب الذي أقضّ مضجعها، ولكنني عدت لأفكّر بقاتل السيدة، وهو شابٌ لا يتجاوز الخامسة والعشرين، وقد نشأ في عائلةٍ كريمةٍ، لأبوين متعلّمين، سيرتهما العطرة في كلّ مكان، فكيف تحوّل ابنهما قاتلاً، وكيف تلقّت أمّه، وهي مربية أجيال، الخبر، وهل ستجد الجرأة لتقف أمام تلميذاتها لتحدّثهن عن الخير والحق والفضيلة؟
خلصت إلى خطأ نرتكبه، حين نتوقّع أن يكون القاتل قد نشأ في أسرةٍ فقيرة، أو مفكّكة، أو منحطّة أخلاقياً، كما نشاهد في الأفلام السينمائية، حيث تصوّر القتلة غالباً على أنّهم من الناقمين على المجتمع، ولكنّ مثل هذا القاتل قد نشأ في أسرةٍ يشهد لها القريب والبعيد، في الحي السكني الهادئ الذي يعيشون فيه منذ سنوات، وحيث وقعت الجريمة، ما يؤكّد دراسةً توصّل لها فريقٌ في جامعة شيكاغو، مفادها بأنّ الأبناء الذين تربّوا في عائلات دينية لا يتمتّعون بأخلاقٍ أفضل من الأبناء الذين نشأوا في عائلاتٍ على العكس تماماً من العائلات الأولى، وقد أجرى هؤلاء الباحثون دراستهم على أطفالٍ من ديانات مختلفة، وتبيّن أنّ المنتمين للإسلام مثلاً من أقلّ الأطفال الذين لديهم القدرة على التسامح، وتتعاظم لديهم الرغبة في فرض العقاب على من ارتكب خطأ ما، وعلينا ألا ننكر أن الفقر هو الأب الشرعي للتطرّف.
إذن، ليس هناك داعٍ، ولا واجبٌ أن نستهجن ونستبعد أنّ هذا القاتل قد نشأ في أسرةٍ مثالية، وعلينا أن نراجع سيناريو محتملاً لحياته، فربما أخفى والداه عن زوجته أنه يتعاطى نوعاً من المخدّرات، وربما قاموا بتزويجه، لكي يستقر ويتوب ويبتعد عن رفاق السوء الذين أغروه حتى أصبح يتعاطى عقار "الترامادل"، وحيث أظهرت إحصائية أخيرة وجود حوالي ربع مليون مدمن على المخدّرات بأنواعها في غزة، والتي عدد سكانها مليونا نسمة، أي أنّ جزءاً من ثمانية أجزاء من عدد السكان عرفوا طريق المخدّرات التي تغيّبهم عن الوعي، وتمنحهم الطاقة الوهميّة إلى درجة الإقدام على السرقة والقتل لتوفير المال للتعاطي، وكذلك بسبب شعورهم بأنّهم تحوّلوا إلى أبطال خارقين، قادرين على تنفيذ الجرائم بحنكةٍ إلى درجة الهروب من العدالة، ولكنّ قاتل السيدة، والذي يتعاطى الترمادول، حسب ما أوردت التحقيقات، وقع في قبضة الشرطة خلال ساعات، ليتركنا نردّد المثل: تحدثُ في أفضل العائلات.