04 ابريل 2020
في نقد مقولة تغيرات العالم الكبرى بعد كورونا
(1)
تتردّد مقولة "العالم بعد كورونا غير العالم قبلها"، ونسمع أنواعا شتى من التوقعات، فمن قائل إن الحرب العالمية قادمة، إلى آخر يقسّم العالم إلى أنظمة اجتماعية منضبطة قادرة على دحر الوباء، كالصين وروسيا وكوريا وإيران، وأخرى تفشل في مواجهته لأنها تعيش في فوضى الرأسمالية، كالولايات المتحدة وإيطاليا وإسبانيا وإنكلترا، إلى قائل ثالث يرى الموضوع نفسه من جهة أخرى، فيتعصب لأيام الاتحاد السوفييتي، ويتحدث عن الانهيار القادم للرأسمالية. وينسب آخرون تحليلهم النظرية الاقتصادية، فيعتبرون الوباء دورة من الدورات الاقتصادية التي تختفي ثم تعود. ويمكن أن نجد المنبهر بالنمو الذي حققته الصين خلال السنوات الماضية، ونجحت بفضله في تجاوز الوباء، ولذلك ستقود العالم. وأخيرا يمكن أن نجد الأقل اندفاعا في توقّع التبديل الكبير القادم، فيتوقع انهيار شركات الدول العظمى، ووصول بورصات العالم إلى الحضيض. وفي المقابل، يعتقد رأي آخر أن العالم بعد الوباء سيكون مثل العالم قبله، مع حتمية الإصلاح والتطوير والترقيع لمعالجة النواقص التي كشفها كورونا.
(2)
يتعزّز الاتجاه الذي يعتقد بالتغيير الكبير بما يصدر عن المؤسسات المالية الدولية، وعن منظمات الأمم المتحدة التي تصور الوباء أزمة خطيرة تعصف بالعالم، تتجاوز أزمة الكساد العالمي الكبير الذي ضرب العالم عام 1929. ويحذّر صندوق النقد الدولي، على لسان مديرته العامة، دول العالم، من أن أزمة فيروس كورونا ستحوّل النمو الاقتصادي العالمي إلى سلبي بشكل حاد خلال العام الجاري، وأن العالم يواجه أسوأ أزمة اقتصادية منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
ما يدحض هذا الكلام أن معدلات النمو الاقتصادي في كل الدول تقريبا تراجعت كثيرا خلال
السنوات العشر الماضية، وتراجعت بشكل كبير في السنوات الثلاث الأخيرة، بما في ذلك تراجع النمو في الصين، وأصبح معدل النمو في بعض الدول يقارب الصفر، قبل أن يأتي وباء كورونا. ويبدو عدم دقة تحليل المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، حين تضيف أن الانتعاش سيعود جزئيا بعد عام 2021، ما يعني أنه مؤقت، ويتناقض مع التهويل الذي ذهبت إليه.
واعتبرت منظمة العمل الدولية، الوباء، أشد أزمة يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، لأنه سيؤدي إلى إلغاء 6.7% من مدة العمل في جميع العالم. وهنا المبالغة أيضا، لأن ما اعتبرتها المنظمة أعلى نسبة بطالة في العالم هي أقل من معدل البطالة الذي وصل إليه العالم بعد الحرب العالمية الثانية، فقد بلغ يومها أكثر من 10%. وهذا يعني أن نسبة البطالة التي تتوقعها "العمل الدولية" أقل مما حدث سابقا، ولا يمكن اعتباره "كارثة"، خصوصا وأن البطالة اليوم تختلف عنها أيام الحرب العالمية الثانية وأيام الكساد الكبير. في تلك الأيام، كان العمال يبقون عاطلين عن العمل، حتى وإن وافقوا على العمل بأجور منخفضة جدا، وهذه ليست الحالة اليوم.
كما أن تحذيرات الأمم المتحدة بزيادة عدد الفقراء بنصف مليار فقير، مما يعرقل تحقيق أهداف التنمية المستدامة في إنهاء الفقر بحلول عام 2030، هو تبرير لعجز الأمم المتحدة عن تحقيق ذلك الهدف. وتدّعي الصناديق المالية ومنظمات الأمم المتحدة أن الفقراء الجدد سيتركزون في شرق آسيا وجنوبها ومنطقتي المحيط الهادئ والصحراء الكبرى في أفريقيا. والحقيقة أن هذه المناطق، حتى هذه اللحظة، هي من أقل المناطق إصابة بالوباء.
كل هذه التحذيرات، أو هذا التهريف والتخويف الذي يصدر عن مؤسسات مالية دولية أو منظمات الأمم المتحدة هو لتبرير فشلها في خدمة العالم، خصوصا العالم النامي.
(3)
لو نرجع إلى التاريخ، وآخر وباءين كبيرين ضربا العالم، الطاعون الأسود في العام 1334، والإنفلونزا الإسبانية في 1918. بدأ الأول، مثل الحالي، في الصين، ثم انتشر ليضرب بشكل أساسي أوروبا وجنوب البحر الأبيض المتوسط وشرقه وأجزاء من آسيا، ويعد أسوأ وباء في تاريخ البشرية الحديث، راح ضحيته بين 70 مليونا و200 مليون، ويقال إنه قضى على ثلث سكان أوروبا بين 1336 و1353.
تبدّل العالم بعد هذا الوباء، ولكن التبدل لم يكن بسبب الوباء نفسه، كما يعتقد بعضهم، بل تبدل العالم في نهاية القرن الرابع عشر بفعل تطور أساليب الإنتاج، وما جرّه من تبدل في علاقات الإنتاج. تبدل يومها النظام العبودي الذي قام عليه اقتصاد العصور الوسطى ومجتمعه، إلى نظام حرفي جديد، بفعل استخراج الفحم وبداية الصناعات المعدنية والنسيجية. أي أن السبب الأساسي لهذا التبدل هو الاكتشافات الجديدة في وسائل الإنتاج، وظهور المانيفكتورات (المعامل اليدوية البسيطة)، ما شكل بداية طبقة رأسمالية، تستخدم أجراء مهرة يعملون في المنازل، ويراكمون المنتجات اليدوية، وبفعل الحروب الطاحنة التي بدأت قبل هذا الوباء واستمرت بعده.
حدث التبدل إذن بعد وباء الطاعون الأسود، بفعل وباء قضى على نصف البشر، وبفعل
التكنولوجيا، في نطاقها الواسع الذي تضمن استخدام مواد أولية جديدة، كالفحم والحديد، وأساليب إنتاج جديدة، كالطباعة وصناعة الزجاج والمحرّكات البخارية (التكنولوجيا، أي التي تستطيع تغيير أسلوب الإنتاج الحالي، أو تستطيع جعل دولة، أو عدة دول، أقوى من دولة أو عدة دول مخالفة لها. وعلى هذا الأساس، لا يمكن اعتبار ما يجري تداوله أن تكنولوجيا الجيل الخامس 5G أو تقنية النانو أنها تغير العالم، لعدة اعتبارات)، ويحدث التغيير كذلك بفعل اكتشاف (واستخدام) أسلحة متقدمة مكّنت شعوبا من غزو شعوب أخرى وإبادتها.
وأما الوباء الثاني الذي سمي "الإنفلونزا الإسبانية"، وضرب العالم عام 1918 وانتهى عام 1920 تقريبا، وتجاوز عدد ضحاياه مائة مليون إنسان، فإنه لم يبدّل في العالم شيئا، ولم يُحدث ما أحدثه وباء الطاعون. التبدل البسيط الذي حدث كان بفعل التغيرات التي أحدثتها الحرب العالمية الأولى.
(4)
على كل حال، وعلى الرغم من أنه من المبكر معرفة كيف سينتهي وباء كورونا، فإن المقارنة بين كيفية تعاطي العالم مع وباء اليوم وتعاطيه مع الأوبئة السابقة تفيد بأن النتائج البشرية والمادية ستكون مختلفة. لم يأخذ العالم سابقا موضوع الأوبئة بالجدّية التي يأخذها اليوم، حيث يتعامل بآليات تختلف عن الآليات التي استخدمت مع "الطاعون الأسود" ومع "الإنفلونزا الإسبانية". ولذلك من المتوقع أن تكون نتائجه البشرية والمادية أقل بكثير من نتائجهما. في السابق، لم تأخذ الدول الوباءين إلا بعد أن بلغا الذروة وأوديا بحياة الملايين، بينما العالم اليوم يلوم ترامب لأنه تأخر أسبوعين في أخذ الموضوع على محمل الجد، كما أن إجراءات الحجْر يومها لم تكن بفاعلية إجراءات اليوم. صارمة في التباعد الاجتماعي، ويتفاعل الناس بإيجابية معها، وتساعد وسائل التواصل الإلكتروني المختلفة في نجاحها، بالإضافة إلى التطورات التي وصل إليها العالم في مجال الطب والأدوية والأجهزة الطبية والأبحاث العلمية.
وتوضح هذه المقدمة التاريخية أن العالم بعد كورونا لن يكون مختلفا بالقدر الذي كان عليه إبّان الطاعون الأسود والإنفلونزا الإسبانية، إلا إذا حدثت تطورات تمسّ بنية الاقتصاد والمجتمع والسياسة، مثل اكتشاف تكنولوجيا مهمة جدا في قطاع ما، أو حرب شاملة لا تبقي ولا تذر، وهذه احتمالات بعيدة حاليا.
(5)
لا توجد إمكانية لحدوث تغييرات جذرية بفعل كورونا، وإنما إمكانية لحدوث تغييرات طفيفة في أكثر من مجال.
على الصعيد السياسي، تفيد تصريحات ومواقف لزعماء في العالم بأن التغييرات ستكون كبيرة، وسوف يكون هناك سباق بين الدول والشركات على الاستفادة من الوباء. تريد دول أن تستفيد سياسيا، مثلما استفادت من الحرب العالمية الثانية إن لم يكن أكثر. هناك من يحثّ الإدارة الأميركية على التركيز عند معالجة الأضرار التي لحقت بالاقتصاد العالمي على حماية مبادئ النظام العالمي الليبرالي، وتوسيع نظام الاستغلال العالمي. وهذا يعني أن بعض الأنظمة الرأسمالية ستصبح أقل ليبرالية وديمقراطية، وأن السياسة داخلها ستتراجع لصالح الأمن والأمان، وربما تزداد شعبية الفلسفة التي تؤمن بأهمية النظام والديموقراطية المسؤولة، أو بمعنى آخر، إنسان أقل حريةً أفضل من إنسان نزيل قبر.
ومن الآثار المؤكدة أن العولمة ستوضع في الحجْر الصحي سنوات طويلة، بعد أن انكشفت
وظهرت على حقيقتها البراغماتية النفعية التي تحدّد العلاقات بين الأمم على أساس المصالح المادية والشعبوية الوطنية، وبعد أن عجزت عن جعل الكمّامات وأجهزة التنفس عابرة للحدود. وقد عجّلت كورونا في كشف زيف التعاون الدولي، خصوصا بين الدول المتجاورة. كان التعاون الدولي فعالا في وجه الفاشية والنازية، ولكنه لم يكن كذلك في زمن الوباء، وخير مثال على ذلك زيف التعاون بين أميركا وكندا، بعد أن قام الرئيس ترامب بتفعيل قانون منع تصدير الكمّامات والقفازات والمعقّمات وأجهزة التنفس إلى كندا ودول أميركا اللاتينية. يكفي أن نراقب فشل السبعة الكبار في استصدار بيان حول فيروس كورونا، بسبب إصرار الولايات المتحدة على تسميته "فيروس ووهان"، ورفض الصين هذه التسمية، وكذلك فشل الدول العشرين للأسباب نفسها. وتأكد للأوروبيين أن الوحدة الأوروبية نموذج طوباوي، لا أساس له في الواقع، وأن التعاون وحقوق الإنسان والقيم التنويرية ليست أكثر من شعارات. ولذلك من المتوقع أن تتفكك منظومة الاتحاد الأوروبي، وأن تتخلخل مؤسساته، وتنكفئ دوله داخليا، أو تنتظم في مجموعات على أساس المصالح الوطنية. وعلى مستوى آخر، قد تتهيأ فرص تاريخية لدول أخرى لتحتل مراكز متقدمة في العالم، كالهند وتركيا والبرازيل وماليزيا وإندونيسيا.
وفي التغييرات الاجتماعية التي تمسّ سلوك الناس وحياتهم، لا بد أن يطاولها التغيير، حيث سوف تنمو الأحقاد وربما يطلق العنان للحروب الأهلية، لأن المجموعات البشرية أصبحت لا تطيق بعضها بعضا، خلافات بين الدول المتجاورة وبين المقاطعات في الدولة نفسها، إضافة إلى تراجع الروابط الاجتماعية، وتباعد الحدود بين الأفراد، خصوصا في المجتمعات الغربية. وكما تركت "الإنفلونزا الإسبانية" كرها اجتماعيا تجاه الصين، فإن وباء كورونا سيترك مجدّدا كرها للصين، يتوقف مداه على قوته وعلى مسؤولية الصين فيه.
وفي التغييرات الاقتصادية التي ستكون أكثر أهمية وأكثر عمقا، من دون أن تصل إلى حد تبديل الأنظمة الاقتصادية، أو نشوء أنظمة اقتصادية جديدة، فالأنظمة الجديدة لا تأتي إلا بفعل تحولات راديكالية في الإنتاج والتكنولوجيا وعلاقات الإنتاج. لن تكون التغيرات مشابهةً، في جوانب كثيرة، لما حدث بعد داء الطاعون، حين تبدلت الأنظمة بفعل تبدل في أساليب الإنتاج وقواه، عدا ذلك سيكون التبدل في الأماكن والمراكز الاقتصادية والتحالفات الدولية.
مؤكّد أن شللا اقتصاديا سوف يضرب العالم، ويدوم سنوات، ويتجاوز ما حدث عام 2008،
إضافة إلى تأثيره على قدرة الدول على سداد ديونها (الديْن الحكومي والخاص العالمي اليوم مرتفع جدا ويتجاوز أضعاف الدخل العالمي). سوف تتضاعف ديون دول معينة، مثل إيطاليا، وسوف تعاني من الهبوط الاقتصادي، وتصبح عاجزة عن التسديد. وسوف تكون هناك تأثيرات محتملة على الدول النامية بسبب عدم قدرتها على اقتراض الديون، مع تراجع قدرة الصناديق المالية الدولية على الإقراض. ومن ناحية أخرى، سوف يعاد الاعتبار إلى الأفكار الاقتصادية المعارضة للتبادل الحر التي سمّيت سابقا أفكار "حماة الاقتصاد الوطني"، أي التي تدعو كل دولة إلى تطوير اقتصادها الوطني والاعتماد على الذات، بغض النظر عن الأضرار التي ستلحق بالنظام العالمي وبالدولة نفسها على المدى البعيد، لأن تخفيض التبادل وانكماش الدول على نفسها سوف يحرمها من مزايا التخصص العالمي، وما يمكن أن يلحقه من أذى بالمستهلكين.
أما عن انتقال مراكز العالم الاقتصادية، فسوف يحدث ما حدث بعد "الطاعون الأسود" وبعد "الإنفلونزا الإسبانية"، حين انتقلت مراكز العالم الاقتصادية من مدن البحر الأبيض المتوسط إلى مدن شمال أوروبا، وانتقلت مراكز الصناعة من مكان إلى آخر. بعد وباء كورونا، سيكون هناك تطور مدن واختفاء أخرى. لن تبقى ووهان وشنغهاي وميلانو، وربما نيويورك، كما هي، بل ستنمو مدن أخرى في تركيا أو البرازيل أو الهند أو أوروبا الشرقية .
وفي ما يتعلق بالمبادلات التجارية بين الدول، سيحدث ما حدث سابقا عندما تراجعت المركنتيلية (التجارية) التي كانت في أوجها، وعندما توقفت رحلات الاستكشاف التي كانت تتجهز في أوروبا وتأجل اكتشاف أميركا ورأس الرجاء الصالح، حيث سوف تتراجع أو تتوقف المبادلات بين بعض الدول، وسوف تنمو وتزدهر بين دول أخرى.
الجانب المضيء في تأثيرات هذا الوباء عودة الدول المتقدمة والنامية إلى تأدية دورها الاجتماعي في توفير الصحة للجميع، بدءا من الوقاية إلى اللقاح فالمعالجة، على اعتبار أن صحة الفرد، قبل المال والأمن والحرب، هي إحدى المهام الأساسية للدولة.
(6)
أخيرا، تتوقف التغييرات المحتملة في المجال السياسي والاجتماعي والاقتصادي على طول مدة الوباء وانتشاره وعدد ضحاياه، وتتوقف على احتمال حدوث تغيرات تكنولوجية خارقة. لم تتعرّض، من قريب أو بعيد، لإمكانية زوال الأنظمة السياسية أو تحوّلها من نظام إلى نظام آخر، ولا إلى إمكانية تحول نظام اقتصادي إلى نظام اقتصادي آخر، لأن تلاشي الأنظمة الاقتصادية أو تحولها لا يتوقف على وباء، وإنما يتعلق بالتحولات التقنية الهامة وعلاقات قوى الإنتاج.
بإيجاز، ستكون هناك تغييرات بسيطة، ولكن ليس مؤكّدا أن كل وباء يؤدي إلى تغيرات سياسية واقتصادية كبرى، فالتغيرات الكبرى لا تحدث إلا بفعل تغيرات تقنية وبشرية كبرى.
(2)
يتعزّز الاتجاه الذي يعتقد بالتغيير الكبير بما يصدر عن المؤسسات المالية الدولية، وعن منظمات الأمم المتحدة التي تصور الوباء أزمة خطيرة تعصف بالعالم، تتجاوز أزمة الكساد العالمي الكبير الذي ضرب العالم عام 1929. ويحذّر صندوق النقد الدولي، على لسان مديرته العامة، دول العالم، من أن أزمة فيروس كورونا ستحوّل النمو الاقتصادي العالمي إلى سلبي بشكل حاد خلال العام الجاري، وأن العالم يواجه أسوأ أزمة اقتصادية منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
ما يدحض هذا الكلام أن معدلات النمو الاقتصادي في كل الدول تقريبا تراجعت كثيرا خلال
واعتبرت منظمة العمل الدولية، الوباء، أشد أزمة يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، لأنه سيؤدي إلى إلغاء 6.7% من مدة العمل في جميع العالم. وهنا المبالغة أيضا، لأن ما اعتبرتها المنظمة أعلى نسبة بطالة في العالم هي أقل من معدل البطالة الذي وصل إليه العالم بعد الحرب العالمية الثانية، فقد بلغ يومها أكثر من 10%. وهذا يعني أن نسبة البطالة التي تتوقعها "العمل الدولية" أقل مما حدث سابقا، ولا يمكن اعتباره "كارثة"، خصوصا وأن البطالة اليوم تختلف عنها أيام الحرب العالمية الثانية وأيام الكساد الكبير. في تلك الأيام، كان العمال يبقون عاطلين عن العمل، حتى وإن وافقوا على العمل بأجور منخفضة جدا، وهذه ليست الحالة اليوم.
كما أن تحذيرات الأمم المتحدة بزيادة عدد الفقراء بنصف مليار فقير، مما يعرقل تحقيق أهداف التنمية المستدامة في إنهاء الفقر بحلول عام 2030، هو تبرير لعجز الأمم المتحدة عن تحقيق ذلك الهدف. وتدّعي الصناديق المالية ومنظمات الأمم المتحدة أن الفقراء الجدد سيتركزون في شرق آسيا وجنوبها ومنطقتي المحيط الهادئ والصحراء الكبرى في أفريقيا. والحقيقة أن هذه المناطق، حتى هذه اللحظة، هي من أقل المناطق إصابة بالوباء.
كل هذه التحذيرات، أو هذا التهريف والتخويف الذي يصدر عن مؤسسات مالية دولية أو منظمات الأمم المتحدة هو لتبرير فشلها في خدمة العالم، خصوصا العالم النامي.
(3)
لو نرجع إلى التاريخ، وآخر وباءين كبيرين ضربا العالم، الطاعون الأسود في العام 1334، والإنفلونزا الإسبانية في 1918. بدأ الأول، مثل الحالي، في الصين، ثم انتشر ليضرب بشكل أساسي أوروبا وجنوب البحر الأبيض المتوسط وشرقه وأجزاء من آسيا، ويعد أسوأ وباء في تاريخ البشرية الحديث، راح ضحيته بين 70 مليونا و200 مليون، ويقال إنه قضى على ثلث سكان أوروبا بين 1336 و1353.
تبدّل العالم بعد هذا الوباء، ولكن التبدل لم يكن بسبب الوباء نفسه، كما يعتقد بعضهم، بل تبدل العالم في نهاية القرن الرابع عشر بفعل تطور أساليب الإنتاج، وما جرّه من تبدل في علاقات الإنتاج. تبدل يومها النظام العبودي الذي قام عليه اقتصاد العصور الوسطى ومجتمعه، إلى نظام حرفي جديد، بفعل استخراج الفحم وبداية الصناعات المعدنية والنسيجية. أي أن السبب الأساسي لهذا التبدل هو الاكتشافات الجديدة في وسائل الإنتاج، وظهور المانيفكتورات (المعامل اليدوية البسيطة)، ما شكل بداية طبقة رأسمالية، تستخدم أجراء مهرة يعملون في المنازل، ويراكمون المنتجات اليدوية، وبفعل الحروب الطاحنة التي بدأت قبل هذا الوباء واستمرت بعده.
حدث التبدل إذن بعد وباء الطاعون الأسود، بفعل وباء قضى على نصف البشر، وبفعل
وأما الوباء الثاني الذي سمي "الإنفلونزا الإسبانية"، وضرب العالم عام 1918 وانتهى عام 1920 تقريبا، وتجاوز عدد ضحاياه مائة مليون إنسان، فإنه لم يبدّل في العالم شيئا، ولم يُحدث ما أحدثه وباء الطاعون. التبدل البسيط الذي حدث كان بفعل التغيرات التي أحدثتها الحرب العالمية الأولى.
(4)
على كل حال، وعلى الرغم من أنه من المبكر معرفة كيف سينتهي وباء كورونا، فإن المقارنة بين كيفية تعاطي العالم مع وباء اليوم وتعاطيه مع الأوبئة السابقة تفيد بأن النتائج البشرية والمادية ستكون مختلفة. لم يأخذ العالم سابقا موضوع الأوبئة بالجدّية التي يأخذها اليوم، حيث يتعامل بآليات تختلف عن الآليات التي استخدمت مع "الطاعون الأسود" ومع "الإنفلونزا الإسبانية". ولذلك من المتوقع أن تكون نتائجه البشرية والمادية أقل بكثير من نتائجهما. في السابق، لم تأخذ الدول الوباءين إلا بعد أن بلغا الذروة وأوديا بحياة الملايين، بينما العالم اليوم يلوم ترامب لأنه تأخر أسبوعين في أخذ الموضوع على محمل الجد، كما أن إجراءات الحجْر يومها لم تكن بفاعلية إجراءات اليوم. صارمة في التباعد الاجتماعي، ويتفاعل الناس بإيجابية معها، وتساعد وسائل التواصل الإلكتروني المختلفة في نجاحها، بالإضافة إلى التطورات التي وصل إليها العالم في مجال الطب والأدوية والأجهزة الطبية والأبحاث العلمية.
وتوضح هذه المقدمة التاريخية أن العالم بعد كورونا لن يكون مختلفا بالقدر الذي كان عليه إبّان الطاعون الأسود والإنفلونزا الإسبانية، إلا إذا حدثت تطورات تمسّ بنية الاقتصاد والمجتمع والسياسة، مثل اكتشاف تكنولوجيا مهمة جدا في قطاع ما، أو حرب شاملة لا تبقي ولا تذر، وهذه احتمالات بعيدة حاليا.
(5)
لا توجد إمكانية لحدوث تغييرات جذرية بفعل كورونا، وإنما إمكانية لحدوث تغييرات طفيفة في أكثر من مجال.
على الصعيد السياسي، تفيد تصريحات ومواقف لزعماء في العالم بأن التغييرات ستكون كبيرة، وسوف يكون هناك سباق بين الدول والشركات على الاستفادة من الوباء. تريد دول أن تستفيد سياسيا، مثلما استفادت من الحرب العالمية الثانية إن لم يكن أكثر. هناك من يحثّ الإدارة الأميركية على التركيز عند معالجة الأضرار التي لحقت بالاقتصاد العالمي على حماية مبادئ النظام العالمي الليبرالي، وتوسيع نظام الاستغلال العالمي. وهذا يعني أن بعض الأنظمة الرأسمالية ستصبح أقل ليبرالية وديمقراطية، وأن السياسة داخلها ستتراجع لصالح الأمن والأمان، وربما تزداد شعبية الفلسفة التي تؤمن بأهمية النظام والديموقراطية المسؤولة، أو بمعنى آخر، إنسان أقل حريةً أفضل من إنسان نزيل قبر.
ومن الآثار المؤكدة أن العولمة ستوضع في الحجْر الصحي سنوات طويلة، بعد أن انكشفت
وفي التغييرات الاجتماعية التي تمسّ سلوك الناس وحياتهم، لا بد أن يطاولها التغيير، حيث سوف تنمو الأحقاد وربما يطلق العنان للحروب الأهلية، لأن المجموعات البشرية أصبحت لا تطيق بعضها بعضا، خلافات بين الدول المتجاورة وبين المقاطعات في الدولة نفسها، إضافة إلى تراجع الروابط الاجتماعية، وتباعد الحدود بين الأفراد، خصوصا في المجتمعات الغربية. وكما تركت "الإنفلونزا الإسبانية" كرها اجتماعيا تجاه الصين، فإن وباء كورونا سيترك مجدّدا كرها للصين، يتوقف مداه على قوته وعلى مسؤولية الصين فيه.
وفي التغييرات الاقتصادية التي ستكون أكثر أهمية وأكثر عمقا، من دون أن تصل إلى حد تبديل الأنظمة الاقتصادية، أو نشوء أنظمة اقتصادية جديدة، فالأنظمة الجديدة لا تأتي إلا بفعل تحولات راديكالية في الإنتاج والتكنولوجيا وعلاقات الإنتاج. لن تكون التغيرات مشابهةً، في جوانب كثيرة، لما حدث بعد داء الطاعون، حين تبدلت الأنظمة بفعل تبدل في أساليب الإنتاج وقواه، عدا ذلك سيكون التبدل في الأماكن والمراكز الاقتصادية والتحالفات الدولية.
مؤكّد أن شللا اقتصاديا سوف يضرب العالم، ويدوم سنوات، ويتجاوز ما حدث عام 2008،
أما عن انتقال مراكز العالم الاقتصادية، فسوف يحدث ما حدث بعد "الطاعون الأسود" وبعد "الإنفلونزا الإسبانية"، حين انتقلت مراكز العالم الاقتصادية من مدن البحر الأبيض المتوسط إلى مدن شمال أوروبا، وانتقلت مراكز الصناعة من مكان إلى آخر. بعد وباء كورونا، سيكون هناك تطور مدن واختفاء أخرى. لن تبقى ووهان وشنغهاي وميلانو، وربما نيويورك، كما هي، بل ستنمو مدن أخرى في تركيا أو البرازيل أو الهند أو أوروبا الشرقية .
وفي ما يتعلق بالمبادلات التجارية بين الدول، سيحدث ما حدث سابقا عندما تراجعت المركنتيلية (التجارية) التي كانت في أوجها، وعندما توقفت رحلات الاستكشاف التي كانت تتجهز في أوروبا وتأجل اكتشاف أميركا ورأس الرجاء الصالح، حيث سوف تتراجع أو تتوقف المبادلات بين بعض الدول، وسوف تنمو وتزدهر بين دول أخرى.
الجانب المضيء في تأثيرات هذا الوباء عودة الدول المتقدمة والنامية إلى تأدية دورها الاجتماعي في توفير الصحة للجميع، بدءا من الوقاية إلى اللقاح فالمعالجة، على اعتبار أن صحة الفرد، قبل المال والأمن والحرب، هي إحدى المهام الأساسية للدولة.
(6)
أخيرا، تتوقف التغييرات المحتملة في المجال السياسي والاجتماعي والاقتصادي على طول مدة الوباء وانتشاره وعدد ضحاياه، وتتوقف على احتمال حدوث تغيرات تكنولوجية خارقة. لم تتعرّض، من قريب أو بعيد، لإمكانية زوال الأنظمة السياسية أو تحوّلها من نظام إلى نظام آخر، ولا إلى إمكانية تحول نظام اقتصادي إلى نظام اقتصادي آخر، لأن تلاشي الأنظمة الاقتصادية أو تحولها لا يتوقف على وباء، وإنما يتعلق بالتحولات التقنية الهامة وعلاقات قوى الإنتاج.
بإيجاز، ستكون هناك تغييرات بسيطة، ولكن ليس مؤكّدا أن كل وباء يؤدي إلى تغيرات سياسية واقتصادية كبرى، فالتغيرات الكبرى لا تحدث إلا بفعل تغيرات تقنية وبشرية كبرى.