في نقد البساطة

08 يونيو 2015

عمل لـ(ستيف باركون)

+ الخط -
تحيل مفردة البساطة إلى شيء "جميل" أو "خيّر" في الوعي العام، لكنه غالباً ليس "جليلاً"، ونقاش فكرة البساطة في حقول الاستاطيقا والفنون والنقد الأدبي أمر ممتع وقادح للفكر، لكنه في التنظير السياسي ونقاش شؤون الاجتماع والمجال العام العربي يستلزم وقفة نقدية، لأنه موضوع خطير. 
أول ملامح تعريف المواطن البسيط في المجال العام هو الملمح الطبقي، حيث تتم المعادلة غالباً بين البساطة والفقر، ولا يحدث كثيراً أن تتحدث مقالة سياسية أو رواية أدبية عن بسيط موسر. ولكن، هناك تعريف يضيف إلى الفقر عنصر تواضع الطموح الشخصي وعدم اللهث وراء كماليات الحياة والرضى بالمعقول، وأحياناً بالكفاف الذي يعبر عنه في الثقافة الشعبية بـ"الستر"، فيصبح البسيط هو الفقير القانع بالحال، على الرغم أن في الإمكان أن يكون البسيط من الطبقة الوسطى، بحسب الفكرة المضافة، إذا ابتعدنا عن الربط المكرس، بصورة شبه حتمية، بين الطموح الكبير والطبقة المتوسطة. وهناك مقاربة أخرى، بإمكاننا الإشارة إليها، وهي فكرة العوام والخاصة في التراث العربي-الإسلامي، وهي فكرة عرفتها الحضارات المختلفة، ولها امتداد إلى يومنا هذا، ولكن، بتمظهرات ومفاهيم مختلفة، ولا تتكون صورة البسيط/العامة من الفقر فقط، بل من الفارق في التحصيل العلمي، ونجد هذا التمييز واضحاً عند أبي حامد الغزالي، مثلاً، وقد كان تمييزه عملياً.
بناء على هذه الصورة المكرسة، تشكلت المواقف الإيديولوجية منها، ووظفت في العصور الحديثة في التنظير السياسي والتنافس الحزبي ونقاشات النقد الأدبي في العالم العربي، مع جيل الكتاب الذي بدأ ظهوره مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، وتداخلت المفاهيم وتركبت وتمايزت المواقف إلى ثنائيات، مثل النخبوي والجماهيري، أو الأرستقراطي والشعبي. ومع ظهور القوى القومية واليسارية، وتمكّنها من قيادة دولة الاستقلال، استفحل التوظيف الأيديولوجي لصورة البسيط في المجال العام وخطاب النظام السياسي، ولم يكن هذا التوظيف لا أخلاقياً دائماً، بل كان ينبع، أحياناً، من صدق إيديولوجي، تثبته خطوات عملية في سياسات النظام، لكن التشوه، الموجود قبلياً، الذي استفحل هو المعادلة بين الفقير/البسيط وبين "الخير" والأخلاق الرفيعة، وقد استخدم هذا التكنيك بعد تفسخ الإيديولوجيا، وسفور وجه النظام السياسي العربي، مركباً أساسياً في الخطاب الشعبوي الذي يتملق ويعيد إنتاج أسوأ النزعات الجمعية، ويبدو أن "رمنسة" صورة الفقير في الدراما التلفزيونية والسينما كان مرضياً عنها، على الأغلب، عند مكونات النظام السياسي.

هناك بالطبع محفزات قديمة لهذا الربط، منها ربط الفلسفة القديمة بين الحق والجمال، ومن هنا، يصبح المظلوم "طيباً"، وربما كان الشاعر الفارسي، سعدي الشيرازي، قد قام بخطوة انشقاقية مهمة، حين تخيل الشيطان في شعره بأنه ذو جمال أخاذ.
هناك أيضاً النصوص الدينية التراحمية، وتأويلها التقليدي، بحيث تصبح القناعة بالكفاف علامة تقوى، وبالتالي، تمظهراً للخيرية في نفس البسيط/الفقير، بالإضافة إلى السرد الروائي الأدبي، وخصوصاً السرد المؤدلج الذي ظهر في حقبة انتشار الاشتراكية والشيوعية، الذي يقدم الفقير في صورة مظلوم، وهذا صحيح غالباً، لكنه بعد ذلك يجعل "الخير" مقتضى حتمياً للمظلومية، ويصبح الموسر هو "الشرير"، مع الإشارة إلى أن من يقرأ وصف ماركس جيوش نابليون بونابرت يدرك أن مسألة الربط بين الخيرية والكدح والفقر لا يجب أن تؤخذ دوماً على محمل الجد.
هذا ما نسميه إشكالية البساطة في المجال العام، وهي إشكالية ليس بسبب خلطها اللاعقلاني بين البساطة والخير فحسب، بل في آثارها غير الجيدة على التنظير السياسي وفكرة التقدم الاجتماعي، فهذا الفهم للبساطة والفقر يجعلنا نحتاج إلى التعسف، بالضرورة، لتفسير الانحلال الأخلاقي المنتشر في العشوائيات والضواحي الفقيرة للمدن الكبيرة، أو تفسير عنف انتفاضات الفلاحين ومجازرها تاريخياً على سبيل المثال، ويسبب صدماتٍ حتى على مستوى الحياة الخاصة، عند التعامل مع مختلف البشر، كما أنه يعيق التقدم الاجتماعي بتكريس الفقر وحياة الكدح قيمة أبدية جيدة ضمنياً!، ولقد أشار الكاتب المصري زكي نجيب محمود، في أحد مقالاته، إلى ولع السينما المصرية بتكريس صورة هازئة بآداب الطعام المنتشرة بين الطبقة الوسطى، كعلامات ترف وتغرّب، بينما يصبح غياب آداب المائدة عند القروي علامة أصالة. وفي رأينا، هذا الربط بين الخير والبساطة والاحتفاء بكل تفاصيل حياة الكادحين يعتبر نوعاً من التخدير الاجتماعي، لا يكون الإقدام عليه عن وعي دوماً، لكن نتائجه غير محمودة على كل حال.
أحد جوانب الحل لهذا الإشكال هو تبني موقف أخلاقي واع يؤنسن صورة البسيط في الفضاء العام، وهو موقف أخلاقي، يجعل قيمة "العدل" دافع الانحياز ومكونه، فالمرء يقف مع المظلوم، لأن من حقه أن ينصف، ومع الفقير لأن من حقه أن يعيش في ظروف مادية، تحفظ كرامته وأمنه النفسي، ولأن "الفقر ليس قدراً". ولكن، لا نقف معهما، لأنهما من ذوي الأخلاق الرفيعة، أي ليس مع "الذات" بل مع ظروفها، وحينها نؤنسن الظواهر والبشر، ونتمكّن من فهم السلوك الاجتماعي، لأنه يصبح أكثر تعقيداً، ونتمكّن من مقارعة العنصرية وعمليات "جوهرة" الإنسان، وفهم أفضل لماهية التقدم الاجتماعي، أي أننا نتمكن حينها، باختصار، من نقد الواقع بما هو عمل أخلاقي.
8AC1ED65-78A2-4712-AD9B-FBCD829DA394
أيمن نبيل

كاتب يمني، من مواليد 1991، يقيم في ألمانيا لدراسة الفيزياء النظرية. نشر عدة مقالات في السياسة والاجتماع والثقافة والفنون، في عدة صحف يمنية.