في مفهوم القصاص من عنف الدولة السودانية

04 يوليو 2020
+ الخط -

 

تداولت مواقع التواصل الاجتماعي السودانية، أخيرا، مقتطفات من كلمة عفوية لوالد أحد ضحايا فض اعتصام الثوار من أمام القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم، في الثالث من يونيو 2019. لم تأتِ الكلمة في خطاب أو حوار معد مسبقاً، بل في شكل ردود على تساؤلات الشباب الذين شارك معهم في مسيرات تنادى لها الثوار يوم 30 الشهر الماضي (يونيو/ حزيران) تصحيحاً لمسار ثورتهم التي أطاحت الرئيس عمر البشير، فقد خرج الثوار في ذكرى مرور عام على أكبر مظاهرات حاشدة شهدتها مدن السودان منذ فض اعتصام القيادة الذي أسفر عن مقتل ما يزيد عن 115 شخصا. ولذلك تعتبر الحدث الأهم الذي انتصرت به الثورة على أعدائها.

قال الرجل إن العنف الذي مارسته الدولة حَفِظَتْ ذاكرة السودانيين أحداثه التي وقعت في حقب عديدة، خص منها بالذكر أحداث الجزيرة أبا التي راح ضحيتها في ساعة من عصر يوم الجمعة، 27 مارس/ آذار 1970، آلاف المواطنين، وبإرادة الدولة وتعليماتها. وهو مشهد، إذا أردنا المزيد، تكرّر في أحداث بيت الضيافة في 19-21 يوليو/ تموز 1971، وفي غيره، وبإرادة الدولة كذلك. ويأمل السودانيون أن تكون مأساة فض الاعتصام العام الماضي آخرها، فقد فطرت قلوب الأمهات والأباء على فلذات أكبادهم، وهي المأساة ذاتها التي ألهمت المتحدث أن يؤكد على فكرة أن القصاص لابنه يكون بالقصاص من الدولة، بتحييدها عن استخدام العنف ضد مواطنيها. 

القصاص من الدولة، بوصفها شخصيةً معنويةً، يكون بالضغط عليها لتحييد قوتها عن قتل مواطنيها

خلت مسيرات يوم الثلاثاء الماضي، نسبياً، من العنف والقتل الذي صاحب مسيرات العام الماضي، حيث لم تتكرّر المآسي التي شهدتها أحداث فض اعتصام القيادة. وهذه ظاهرة إيجابية جديرة بالتوقف عندها، بغرض فهمها أولاً ولقراءتها ثانياً، إمعاناً للنظر في إمكانية الرهان على وعي جمعي يحرس "مبدأ حماية الدولة لمواطنيها"، وإلزامها بتأمين الحق في التظاهر السلمي، وصون الحقوق التي يقرّها القانون. إذ يجب أن يترسخ في "وعي الدولة" السودانية، وتقاليدها، أن حماية مثل هذه الحقوق أصل، لا استثناء يجب البحث عن تبريره وفهمه، فمن المعيب أن يصبح الاستثناء هو الأصل.

بحسب لجنة أطباء السودان المركزية، أسفرت مواكب الثلاثاء الماضي، 30 يونيو 2020، التي انتظمت في العاصمة والولايات، عن مقتل مواطن (33 عاماً)، ووقوع إصابات متفاوتة. وعلى الرغم من عظم هذا الجرم في حد ذاته، لأنه "مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا" (المائدة/ 32)، فإن ما وقع من تعدٍّ على المتظاهرين يعدّ، بالمقارنة بما وقع في تظاهرات شبيهة العام الماضي، حدثاً فريداً في مسار الثورة السودانية، منذ 19 ديسمبر/ كانون الأول 2018. وللمراقب أن يتساءل: لماذا لم تصاحب المواكب ممارسات العنف والقتل التي ظلت، على الرغم من استنكارها، سلوكاً مصاحباً لتعامل السلطات مع الثوار؟

الترتيبات التي قضت بإبعاد قوات الدعم السريع، عن تأمين الكباري وحراسة المنشآت والمدن، يبدو أنها راعت حساسية انتشار هذه القوات في العاصمة والمدن

أول ما تجدر الإشارة إليه هنا الترتيبات السياسية والأمنية التي اتخذتها الحكومة قبل بدء الحشود، فقد وجّه رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، قبل يوم من المسيرات، كلمة إلى الشعب السوداني، منوهاً فيها إلى أنه اجتمع بطيف واسع من القوى السياسية ولجان المقاومة والقوى المجتمعية، وإلى استلامه مذكرات لجان المقاومة وأسر الشهداء عن تعديل المسار، مؤكدا "أن كل المطالب التي وردت في هذه المذكرات هي مطالب مشروعة واستحقاقات لازمة، لا مناص عنها وستعمل حكومة الفترة الانتقالية على تنفيذها بالشكل الأمثل خلال الأسبوعين القادمين، متوخين في ذلك التوصل إلى أعلى درجات التوافق والرضا الشعبي". ويتضح من البيان أن "قوى الثورة" قد اجتمعت برئيس الوزراء وتفاكر معها، ولعل لهذا السبب وصف القيادي في الحزب الشيوعي صديق يوسف مواكب 30 يونيو بالاحتفالية، في حين ظل ناشطون كثيرون على صفحات التواصل الاجتماعي يناشدون الثوار بالخروج لتصحيح مسار الثورة. وفي الجانب الأمني لتعاطي الحكومة، كثف الجيش انتشاره قبل المسيرات بأيام، واستنفر كبار الضباط (برتبة لواء) لتأمين الكباري (الجسور) وإغلاق مدن العاصمة الثلاث، بمنع الدخول والخروج منها، وسدّ كل الطرق المؤدية إلى محيط قيادة الجيش. كما أصدرت الأجهزة الأمنية التحذير من وجود مندسّين محتملين في المسيرات، وأعلنت إغلاق المحال التجارية، وأوقفت البنوك تعبئة ماكينات الصرف الآلي بالنقود في إجراء احترازي.

يُستشف من هذه الإجراءات أن الحكومة تحسّبت لوقوع اشتباكات بين الأجهزة الشرطية والعسكرية من جهة والثوار من جهة أخرى، وأنها التزمت بخطة مزدوجة؛ فهي حاولت تحذير الناس من الخروج في تلك المواكب، ونشرت قواتها لمنع مواكب مدن العاصمة الثلاث من الالتقاء في موكب موحد. وفي المقابل، قد تؤول تلك الترتيبات على أنها تعبر عن مستوى من مستويات تقبل السلطة السياسية والأمنية (التي تصدر التعليمات) للحق في التظاهر السلمي. وأياً كان الأمر، فإن السماح لتلك المواكب، طوعاً أو كرهاً، عبر عن إصرار الشارع على التظاهر في التاريخ الذي حدده.

من جهة أخرى، فإن الترتيبات التي قضت بإبعاد قوات الدعم السريع، عن تأمين الكباري وحراسة المنشآت والمدن، يبدو أنها راعت حساسية انتشار هذه القوات في العاصمة والمدن. فهي قوات قد تم تأهيلها لمهام حراسة الحدود وصد العدوان ومنازلة المتمرّدين، وينقصها الانضباط المهني عند التعامل مع التظاهرات وحشود المدنيين. وهذا حسن، يحسب لقيادة هذه القوات تفهمهم له. ولعل من المفيد، في هذا السياق، استحضار أحداث الأبيض المؤسفة، التي قتل فيها، نهاية شهر يوليو/ تموز 2019، ثمانية من طلاب المدارس بالرصاص لدى تفريق قوات الأمن مظاهرة احتجاجية على الغلاء وانقطاع التيار الكهربائي وشح السلع، بما في ذلك الوقود والخبز. قيل وقتها إن الفرقة التي أطلقت النار تتبع قوات الدعم السريع، ونظر محللون إلى تصرف الجنود من زاوية أنهم غير مدرّبين على أساليب الاشتباك مع المواطنين، فقد كان القتل مباشراً، ومن على مسافة قريبة، بوابلٍ من الرصاص الحي على صدور صبيةٍ عزّل! والغريب، على الرغم من خطورة مثل هذه التصرفات على أرواح المدنيين، ما زالت هذه القوات تتمركز في العاصمة والمدن، في مشهد تتداخل فيه السياسة مع الأمن. وهو تداخلٌ لا مناص من ترشيده، بالأدوات السلمية ذاتها، وإلا تحوّلت هذه القوات إلى تنظيم سياسي مسلح. يتحكّم في القرار السيادي والسياسي بسلاحه وعتاده.

ما زال طريق تعزيز الثقة في قدرة الأدوات السياسية السلمية على وقف عنف الدولة السودانية طويلاً وشاقاً، لكنه ممكن

وبالعودة على بدء، فإن القصاص من الدولة، بوصفها شخصيةً معنويةً، يكون بالضغط عليها لتحييد قوتها عن قتل مواطنيها، وبالضغط عليها لتنهض بواجبها في حفظ حياتهم وسيادة القانون. تلك هي مفردات والد الشهيد عبد الرحمن، التي استفتحت بها هذا المقال. إنها مفرداتُ تستحق أن تُكتب بماء من ذهب في قاموس الثورات السلمية، فهي عميقة المعنى والدلالة. ليت الساسة يدركون أبعادها، ويلزمون أنفسهم وأحزابهم بها، فهذا الذي ينشده والد عبد الرحمن يعني، ضمن معانٍ أخرى، أن تمنع الدولة نفسها، وأن تمنع كل الأطراف المسلحة (في المركز والأطراف) من أن تتقوّى بقواتها وعتادها تحقيقاً لمكاسبها وفرض إرادتها "بالقوة"، إمضاءً لأحاديةٍ في اتخاذ القرار. كما تعني، في المقابل، أن على المدنيين، وباستخدامهم قوة سلاحهم السلمي، منع الممارسات والحالات التي تُستغل فيها الدولة من أطرافٍ تحاول تحقيق مكاسبها الخاصة بقوة السلاح. لأنها مكاسب زائفة، يُضحّى فيها بأرواح المواطنين العزّل، ويُدار فيها الحوار بين أبناء البلد الواحد بلغة السلاح، لا بلغة العيش المشترك!

ما أظهرته مسيرات الثلاثاء الماضي، من تغيير نسبي في عقلية متخذ القرار الأمني والسياسي في السودان، ما كان لنا أن نعايشه لولا سلمية الشارع وإرادته. وطالما أن شيئاً من ذلك قد تحقق، أياً كان السبب، فإن الرهان على هذا المبدأ، والصبر عليه، كفيل بأن يحوّل سلوك الدولة هذا من سلوك تكتيكي مرحلي إلى سلوك دائم ومستمر، تحرسه الجماهير بوعيها وسلمية أداوتها في الضغط السياسي.

ما زال طريق تعزيز الثقة في قدرة الأدوات السياسية السلمية على وقف عنف الدولة السودانية طويلاً وشاقاً، لكنه ممكن، وهو طريقٌ، على الرغم من مشقته، ضروري لبناء الوطن وحفظ كرامة إنسانه. وأساس ذلك تشكيل الوجدان الوطني الرافض للعنف والعنف المضاد، والقادر على ترشيد الخلاف بالحوار المتسامي عن المصالح الضيقة.

CE7B15B1-9F78-463E-B6CE-ABAF1FB09E37
CE7B15B1-9F78-463E-B6CE-ABAF1FB09E37
أبو بكر محمد أحمد إبراهيم

كاتب وأستاذ جامعي سوداني، المنسق الأكاديمي لبرنامج الدراسات الإسلامية، والأستاذ المشارك بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة قطر

أبو بكر محمد أحمد إبراهيم